صفحات الرأي

سورية والصدمة العميقة

إبراهيم غرايبة *

لعلّ أكثر وأهـم الدروس في الأزمـة السورية المقدار الهائل والعميق من الخراب والخلل في بنية ومنظومة التفكير والضمير وميزان الأخلاق والوعي والتقويم والتفكير لدى العرب دولاً ومجتمعات وأفراداً وجماعات وأحزاباً وتيارات سياسية وفكرية، وأن الإصلاح يحتاج إلى عمليات هدم كبرى كما بمقدار وربما أكثر مما يحتاج من عمليات بناء جديدة أو بديلة…

هذا الاستعداد الأخلاقي لقبول بل وتشجيع القتل بالجملة، والتعصب البدائي الجاهلي للطوائف والقـــبائل والأديـــان، كما لو أن موجات التحرر والمساواة والتنوير وحقوق الإنسان والحيوان والبيئة والتقدم العلمي والتقــني والارتــقاء الاجتـــماعي مرت على البلاد والمجتمعات العربية مروراً عابراً سطحياً.

الصدمة الكـبرى أن هذه التــشكلات البدائية مدعومة بـأفـضل الكـفاءات العلـمية والتـقـنية ويـقـودهـا ويـديرها أصحاب شهادات علمية عليا ومنـخرطون في تيارات سياسية وفكرية؛ دينية وإسلامية وقومية ويـسارية وليبرالية يفتـرض أنهـا تقدمـية!

الفشل والخواء وتدمير الذات الذي كشفت عنه الأزمة السورية لا يمثل صدمة واحدة، وليس وحده وبذاته صدمة، ولكنها صدمات مثل نصال تتكسر على النصال؛ الذكاء والعـــبقرية في إدارة الفــــشل وتدبيره، والخبرات العلمية والتقنية والجهود الإعلامية والسياسية والفكرية لإنتاج الفشل والكراهية والتعصب القـــبائلي والطـــائفي وتبرير الهمجية وتسويغـــها! تيارات ديـــنية تعيد إنتاج الـــدين علــى نحو مخــــيف مدمر، تستوعب الحـــداثة والديموقراطــية والعلوم والتقنية لإنتاج التخلف والبدائية وتجارة البشر! ويساريون وماركسيون يستخدمون المعرفة المتقدمة والمهارات التحليلية والجدلية وقيم العدالة الاجتماعية والاشتراكية لتقديم النيرونية وأبشع أنواع الاستبداد والإبادة على أنها نضال ومقاومة وانتصار على الامبريالية، كيف مرت مشاهد الجثث والاغتصاب والقتل والتهجير على ضمائر اولئك الذين يبكون من خشية الله ويتلون آياته آناء الليل وأطراف النهار؟ كيف يبدو نصراً ذلك القتل والتدمير؟ انتصار من على من؟ كيف تتحمل تلك الأجساد والنفوس ذلك المقدار الهائل العميق من طاقة الاستمتاع بالقتل وعشق الدم وعبادته؟

أظن أن «انتصار القصير» والازمة السورية بعامة سيحدثان صدمة عميقة في السلوك والتفكير العربي، رفضاً شاملاً للنخب والتيارات والأفكار السياسية والفكرية والدينية، وردود فعل معاكسة لكل الاتجاهات السائدة في هذه اللحظة، ولا أعني أن ذلك أمر حسن بالضرورة، ففي هذا الألم العميق، والضحالة الفكرية والرؤيوية، والخواء الروحي والأخلاقي الذي زادته التيارات الدينية وكرسته؛ يصعب التنبؤ بنشوء مجتمعات تقوم على التنوير والتسامح وتعلي من شأن الفلسفة والفنون والجمال في التعليم والحياة والتفكير، وهو الشرط الأساسي والعتبة الأولى للإصلاح والتي لا يمكن تخطيها ولا يمكن إلا العودة إليها، العودة المؤلمة والمكلفة أيضاً، فسننفق على الهدم أضعاف ما نبذله لأجل الإصلاح!

5 حزيران (يونيو) 2013 ستضاف إلى محطات عربية أخرى، مثل 11 أيلول (سبتمبر) 2001 و2 آب (أغسطس) 1990، و5 حزيران 1967.

وإنها محطات تغري بالتأمل والملاحظة!

* كاتب أردني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى