صفحات العالم

سورية ورهانات المرحلة


د. لطفي السنوسي

لفتت انتباهي مقولة ردّدها مبارك وولي عهده جمال قبل سقوط نظامه وهي ‘مصر ليست كتونس’، و بالرغم من عدم صدق حدسه الا أن ما شهدته المنطقة من انتفاضات استُلهمت من الثورة التونسية في كل من ليبيا والبحرين واليمن وسورية يجعلنا ننظر الى هذه المسألة بأكثر واقعية بعيدا عن السيناريوهات العنترية التي تشبه الدراما السورية، فالمتتبع لطبيعة الأنظمة القائمة يدرك أن لكل منها بيئتها الخاصة محليا وإقليميا، واذا كان هذا منطلقا لتقييم ما يجري في سورية بالتحديد فلن يكون بالتأكيد صك غفران للنظام السوري الذي لم يتوان في استخدام الدبابات والذخيرة الحية في سحل شعبه.

لا شك بأن طبيعة النظام السوري البعثي الذي حكم سورية منذ سنة 1963 بعقيدة العنف الثوري، جعله يتفرد بالحكم ملغيا بذلك كل مقومات الحياة السياسية، فاعتمد الاقصاء المدني بل واستعمل كل الاساليب لتصفية خصومه من الاسلاميين والناصريين بل حتى من البعثيين أنفسهم، فكانت ممارساته أقرب الى محتل منه الى حاكم، وهذا ما يفسّر السّرعة المذهلة في استخدام القوة ضد المتظاهرين خلال انتفاضتهم باستعمال الدبابات والحوامات والمدرعات وكانه يواجه جيشا جرارا، فقتل واعتقل وهجّر وشرّد الآلاف من أبناء شعبه ممارسا بذلك سياسة العقاب الجماعي الذي استعمله الكيان الصهيوني إبان ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين على شعب فلسطين الأعزل.

ولعل اهم ما صنعته ثورة الأحرار في سورية هو انها كسرت جدار الخوف وزادت يقين كل الأحرار بأن لا ملجأ من الثورة الا الى الثورة، فسقطت كل آليات التنكيل والتسلط والإذلال بأيدي من واجهوا الرصاص بالدم، وأمام الصمت الخارجي يبقى السؤال الملح: هل ستتواصل ثورة الشعب السلمية على نفس الوتيرة، خاصة وأن فرضية التدخّل الخارجي كما في ليبيا تبدو غير مطروحة، بعدما عجز مجلس الامن عن اصدار قرار يدين هذه المجازر بسبب وقوف موسكو والصين امام اي إجراء محتمل ضد هذا النظام، ونحن نفهم جيدا الأسباب التي لم تعد خافية على أحد، فما شهدناه من تباعد في المواقف من الثورة الليبية يجعلنا ندرك أن لا قيمة لأي قيمة انسانية أمام المصالح الاستراتيجية والقومية،وهنااكتفت جامعة الدول العربية بإبداء النصيحة،حتى العقوبات المسلطة على مسؤولين سوريين ستكون في صالح النظام لا ضده.

إن ما يمكن استخلاصه هو أن الثورات العربية قد كشفت عورات وسوءات كل من لبس ثوب النزاهة والغيرة على الأرض والدين، وجعلتهم يقفون أمام من تبعهم موقف الخزي والعار، ولعل الواقفين وراء النظام السوري بل والداعمين له هم من جعلوه لا يتوانى في التنكيل بمن أراد أن يوهمنا بأنهم متآمرون على أمن سورية واستقرارها، لكن إرادة الشعوب في التحرر والانعتاق أبدا لن تقهر خصوصا بعد سقوط نظام بن علي ومبارك، إن إدراكنا لطبيعة النظام السوري يجعلنا نجزم بأن تزحزحه من العرش لن يكون بالأمر الهين، فهذا النظام تعود على الهروب من أزماته الداخلية من خلال فتح جبهة خارجية من شأنها أن تدير رؤوس الرأي العام عليها، فللنظام السوري في اعتقادي خياران، الأول يتعلق بالجولان هذه الورقة التي لعب عليها طويلا ولم يتجرأ طيلة هذه السنوات على إطلاق رصاصة واحدة من أجل سيادة بلاده، فربما حان الوقت ليتحرك في هذا الاتجاه ليطالب اليوم برسم الحدود مع ما يسمى ‘بدولة إسرائيل’، أما الخيار الثاني فهو محاولة اقحام حركات المقاومة المدعومة من النظام السوري في هذا الصراع من خلا ل فتح جبهة مع اسرائيل بأية ذريعة، وهذا يدخل في نطاق تصفية حسابات قديمة لهذه الحركات مع اسرائيل، وهنا طبعا لست أتّهم حركات المقاومة بالتواطؤ وإنما توحد المصالح بين الطرفين، كل منهما يراها من أولويات المرحلة.

بالتأكيد أن الحديث عن قضية الجولان اليوم تعتبر ورقة ضاغطة على البيت الأبيض حتى لا يمضي في طريق تسليط عقوبات على النظام ورموزه، ولعل الاشتباكات التي شهدناها على الحدود تعتبر رسالة واضحة من النظام السوري لإسرائيل في هذا الاتجاه، وهنا يربح النظام السوري استبعاد الحل العسكري تجاهه، وهذا يعتبر ربحا للوقت في اتجاه قمع المنتفضين وترويعهم، فالسيناريو الليبي جعل النظام السوري يزداد قوة، فبالمقارنة نجد أن آلاف الليبيين سقطوا وهجّروا ودمرت بيوتهم وانتهكت أعراضهم، ثم نسمع اليوم فرنسا وأمريكا تتحدثان عن ضرورة التفكير في حلّ سياسي بين طرفي النزاع في ليبيا. أما الحديث عن حركات المقاومة في فلسطين ولبنان فالأمر يجب أن ينظر إليه بطريقة مختلفة، فهذه الحركات لا تتعامل مع ما يحدث في سورية من موقعها كدولة، وانما ككيان غير معترف به دوليا ولا بد لهم من المحافظة على أهم مقومات البقاء لديهم وهي الحياد في القضايا التي لا تمسها بطريقة مباشرة، وهذا لا يدينها في رأيي حيث أن هذه الحركات تعول دائما على شرعية قضاياها لا على التحالفات المشروطة، وأي تحرك أو موقف تتبناه هذه الحركات يعتبر دفاعا عن وجودها لا على النظام السوري الذي لن يتردد لحظة واحدة في التحالف مع الشيطان من أجل بقائه في الحكم حتى ولو كان ذلك على حساب حلفائه.

ان الخطر المحدق بسورية اليوم هو السير في طريق التناحر الطائفي والذي سيكون غطاء لممارسات هذا النظام الذي سيحاول تغذيتها بكل الأشكال وهذا ما سيمضي بسورية في اتجاهين محتملين، الأوّل هو دخول سورية في حرب أهلية والتي ستفتح الباب على مصرعيه أمام عدة قوى في الداخل والخارج من أجل تحقيق أهداف مرتبطة في الغالب بأجندات خارجية، وهذا ما يفسر وقوف حزب الله موقفا مختلفا عن مواقفه من الثورات السابقة، فما نعرفه على هذا الحزب منذ تحرير جنوب لبنان سنة 2000 مرورا بحرب تموز/يوليو عام 2006 وحرب غزة عام 2008 وبداية 2009وكيفية تعامله مع الازمات الداخلية يجعلنا ربما نثق في موقفه الذي يراه يخدم المنطقة ككل في هذه المرحلة من حيث رسم خارطة الأولويات، فموقف حزب الله وحماس يمكن أن يُفسر على أنه استراتيجي بالأساس لا مبدأي، بمعنى أنه يندرج تحت مبدأ الخوف من انفجار المنطقة ككل مما سيرجح كفة اسرائيل وحلفائها على حساب حركات الممانعة.

اما الاتجاه الثاني فيتعلق بتركيبة الجيش السوري الطائفية ، والذي من المحتمل أن يستغل انهيار الأوضاع الأمنية وانسداد الافق السياسي من أجل قلب نظام الحكم، وهذا طبعا لا يعتبر الحل الأمثل، لأن الشعب السوري لا يمكنه ان يعيش من جديد في ظل نظام يولد من رحم من سبقه بعدما رأى النموذج التونسي والمصري وهذا ما سيجعل البلاد تدخل من جديد في صراعات طائفية قد تمضي بالبلاد الى طريق غير مضمون العواقب، وأعتقد أن الوضع سيكون أتعس بكثير مما آلت إليه العراق وليبيا.

من هنا تأتي الحاجة الملحة لتدخل القوى الثورية التي ناضلت طيلة عقود في الداخل والخارج من معارضة وقطاعات رأي عام من أجل الخروج بسورية مما يحاك لها من مؤامرة قد تجرها إلى التمزق والتشرذم، فما نعرفه عن المعارضة السورية من تنوع على مستوى تركيبتها واختلاف مذاهبها وطوائفها وقومياتها ومشاربها الأيديولوجية يجعلنا ندرك أن مسؤوليتها تجاه سورية هي تاريخية بأتم معنى الكلمة، حيث أن المهمة الموكولة لها تتمثل في التخلص من كل ثوابتهاالايديولوجية والفكرية من أجل تحقيق الوفاق في اتجاه الوصول بسورية إلى مستوى الدولة المدنية الديمــقراطية، فالأكيد اليوم هو أن النظام قد اقتنع بأن لا سلطة لحزب البعث على الدولة كما في الماضي وهذا يعني بطريقة أو بأخرى أن نظام الأسد قد فقد شرعيته، فالمهمة الاكثر تعقيدا هو الوصول الى تكوين قيادة تمثل الشعب وقتيا و تتمتع بغطاء إقليمي ودولي،بحيث يمكن لها أن تشكل بديلا للنظام القــــائم في هذه المرحلة الانتقـــالية والتي سنشهد فيها ازدواجية الدولة كما هو الشأن في ليبيا، فلا تختصر المهمة اذا على بناء مستقبل سورية ما بعد حكم البعث بل يجب أن يكون موضوع كيفية الاطاحة بنظام الأسد بأقل التكاليف من أولويات قوى المعارضة وهو ما لم يطرح بصفة جدية في المبادرات الأخيرة.

 كاتب تونسي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى