صفحات الناسهيفاء بيطار

سورية وطن للنساء/ هيفاء بيطار

 

 

أصبح حديث العالم وشاغله هجرة مئات آلاف السوريين إلى دول أوروبية، وخصوصاً هجرة الشباب الذين يفرّون من الموت خوفاً من الخدمة الإلزامية في الجيش، التي تعني أن يتحولوا إلى ورقة نعي، وقد مات مئات الآلاف من الشبان السوريين في الحرب القذرة، من دون أن يختاروا حمل البندقية وفعل القتل. وبدأت قرى بأكملها تهجّر شبابها تهريباً، خصوصاً عبر الحدود التركية. وقد فرَّ من قرية صغيرة في ريف اللاذقية، في يوم واحد، 150 من شبّانها. ويتم الهروب من سورية مهما كانت المخاطر من غرق أو ابتزاز المهربين أو الإفلاس لتأمين المبلغ للمهرب، أو الموت بسبب الظروف الطبيعية، خصوصاً من يهربون مشياً.

صحيح أن أسراً من الوالدين والأبناء هاجروا، لكن نسبة هؤلاء أقل من هجرة الشباب. لا يمر أسبوع إلا وترى القوارب محملة فوق طاقتها بمئات الشبان السوريين. سألت أحدهم، وتربطني به معرفة: ألا تخاف من السفر في هذه القوارب المطاطية؟ ألم تسمع عن غرق أكثر من 4000 سوري صاروا طعاماً للأسماك، حتى إن رسام كاريكاتور رسم علبة سردين مكتوب عليها “لحم سوري”؟ أجابني الشاب: طبعاً أنا خائف، واحتمال موتي كبير، وأعرف أن كثيرين ماتوا غرقاً. سألته: كيف تجازف وتسافر بالبحر وبقوارب النايلون (يسمونها النفخ)؟ فأجاب بضحكة ساخرة: فكرت في الموضوع، واحتمال أن أنجو من قوارب النفخ 20 بالمائة، أما بقائي في سورية فيعني احتمال موتي مائة بالمائة، لأنني سأتحول ورقة نعي. مات 126 شاباً من زملائي في الجندية، فكيف سأبقى في بلد الموت؟

“بدأت قرى بأكملها تهجّر شبابها تهريباً، خصوصاً عبر الحدود التركية. وقد فرَّ من قرية صغيرة في ريف اللاذقية، في يوم واحد، 150 من شبّانها”

سافر الشاب، وتحقق احتمال نجاته. وبقيت أسابيع في ذهول أقرب إلى اللاتصديق والذعر، ما يشبه مسرح اللامعقول: كيف يمكن لشاب في الثانية والعشرين من عمره أن يستوعب أو يتحمل موت 126 شاباً من زملائه في الجندية؟ كيف لم يجنّ؟ كيف لم ينتحر؟ هل يستطيع بعد الآن أن يستحضر ذكرياته معهم أحياء، أم أنهم كلهم تحولوا إلى الشهداء الأبطال وأوراق نعي؟ وما حال أسر هؤلاء الشبان.. الأمهات الثكالى اللاتي سيحملن جرحهن العميق حتى القبر، وحالة الصبايا العاشقات اللاتي كنّ على علاقة حب مع الشبان الذين ماتوا؟ ومن يدري، فقدترينا الفضائيات آلاف وملايين النازحين، وأغلبهم من الشباب، ولن يبقى في سورية سوى الأمهات الثكالى والشابات اللاتي شِخن من الحزن والخيبة وفقدان الحبيب والعنوسة. وأتخيل أن ثمة مقاهي بسيطة سوف تنشئها نساء سورية، قريبة من المقابر أو حولها، ليكنّ قرب أولادهن. سيجلسن يمضغن حديث الحزن مكسورات الجناح والقلب، وسيدخّن الأركيلة، عسى نفخ الدخان يساعد على خروج الحزن الكثيف من قلوبهن.

شاهدت أوراق نعي لشبان في عمر الورود، بعضهم لم ينبت شاربه، في ثيابه العسكرية، وعلى يمينه صورة الرئيس بشار الأسد، كما لو أنه يبارك شهادته، وعلى يساره صقر مُخيف بمنقار معقوف متجه مباشرة إلى عنق الشهيد، تحديداً منطقة الوريد الوداجي، كما لو أنه سيمص دمه، وفي عيني الصقر قسوة وشراهة للدماء. الصورة فجّرت غضباً هائلاً في صدري، فما المغزى منها؟ ما المغزى من صورة صقر يبعد منقاره عن عنق الشهيد الذي نزف دماءه سلفاً؟ وماذا يعني الصقر؟ هل هو تأكيد للموت؟ أية عقلية سافلة إجرامية سادية وضعت صورة الصقر لصق وجه الشهيد، بحيث تشعر أنه لحظة سوف ينقر وريده الوداجي، ويمص دمه للمرة الثانية. المرة الأولى لما قتل في معركة لا تخصه وباركه الرئيس، والثانية بمنقار صقر مفترس.

ما نفع الندم طالما أن ملايين الشبان السوريين سافروا، لتبقى سورية وطن النساء الثكالى.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى