صفحات العالم

سورية ونهب «الرجعيات الأممية»/ أحمد جابر

 

 

عندما اندلعت النار في سورية ظنَّ كثيرون أنها ستؤول سريعاً إلى انطفاء، وعندما امتد الحريق تبدل الظن يقيناً، فوقف الكثيرون أمام هول الوقائع والفظائع التي حملتها ألسنة النار الأهلية.

أول المتفائلين بإهماد اللهيب الداخلي كان النظام السوري، فهذا ما كان ليقبل بإشارة ضعف إلى قدرته على وأد كل اضطرام، وما كان ليدور في خلده، أن الهتاف الموزع على «جمعات» أسبوعية، سيكبر ويتبدل ويتحول ليصير أزيز رصاص ودوي مدافع ومشاهد خراب عميم. ومثلما كان النظام المتفائل الأول بنجاعة قدراته، وبتفوق أساليب معالجاته القمعية، المغلفة والعارية، كان هو المبادر الأول أيضاً إلى الضغط على الزناد، فكان من شأن ذلك، أن يطلق كل ما في «صندوق باندورا» السوري من مكنونات البنية الأهلية، ومن مضمرات الشرائح الأهلية، ومن نصوص الكلام المسكوت عنه، طائفياً وإثنياً في الداخل، ومصالح ومطامح للعب بالوضع السوري، من قبل الخارجين الإقليمي والدولي، وهذه المرّة على حوامل الأطياف الداخلية السورية، التي وجدت مؤازرة لها من بين الغريب الأعجمي والقريب العربي أيضاً. في لحظة، ومن ضمن مسار معقد ما زالت مشاهد ترى، تحلقت «الأقوام» حول حزمة مصالح جامعة، واختلفت حول حزمات أخرى، لكنها توافقت جميعها على جعل الميدان السوري ميدان تصفية حسابات، بحيث تبقى النار بعيدة من ميادين الأقوام الوطنية.

لكن تسجيل بداية كل حدث ضخم مثل الحدث السوري، وتعيين المسؤوليات التي رافقت تلك البداية، لا يختزل الحديث الإجمالي اللاحق عن المسؤوليات التي باتت من نصيب أطراف آخرين، من بينهم النظام الذي كانت بيده مقاليد الأمور، ومن بينهم الحالة الشعبية كما قدمت نفسها عند البدايات، ومن بينهم المعارضات المتفرقة المتنازعة، التي ورثت منطلقات الحركة الشعبية، فأخذت زخمها وبددت أهدافها وقضت على مضامين تلك الأهداف الإنسانية والأخلاقية والسياسية. بكلام مختصر: النظام السوري هو المسؤول الأول لدى انطلاقة الشرارة الأولى، وما زال مسؤولاً عن رفد الحريق الداخلي بسياساته، والمعارضة التي صارت معارضات، مسؤولة هي الأخرى بُعيد تبلور نذر البداية الكارثية التي اعتمدها النظام، ومسؤولة بعيد ذلك التبلور، الآن وحتى إشعار آخر، عن الإيغال في لعبة الدم السوري، وعن حالات الاستتباع التي باتت مصادر دعم لها، وعن رهن شطر واسع من مصير الوطن السوري، الذي هو الآن أوطاناً، لدى مجموعة من المرابين الدوليين والإقليميين، الذين يساهمون بنشاط وقوة، في دفع قطار العملية الاجتماعية السورية صوب الماضي المتخلف السحيق.

ما تقدم، ليس كلاماً من الماضي، بل هو قول راهن، عن الراهن وعن المستقبل السوري الذي ما زال غير مرئي، إذا ما كان المقصود سورية الطبيعية والسياسية والاجتماعية المعروفة سابقاً، أو إذا كان المقصود قراءة استشرافية لما سيكون عليه المسمّى السوري الموزع مناطق نفوذ، جغرافية وبشرية، على كل المتدخلين في المذبحة السورية.

الراهن من القول هذا، هو فعل الموقف الذي بات الفعل الوحيد الممكن لكل الذين أرادوا للوطن السوري العزيز على أهله، والعزيز لدى من يقول قولاً قومياً عربياً حقيقياً غير مزوَّر ولا مضلِّل. الموقف الحريص، سورياً وعربياً، يتضمن إدانة النظام السوري في كل محطات تعامله مع شعبه، في الماضي وفي الحاضر، ويتضمن أيضاً إدانة كل صنوف المعارضات التي جاءت إلى الواقع السوري بالماضي، وقطّعت أوصال اجتماعه بالسيوف المواضي، سيوف النصوص البائدة، وسيوف التأويلات والاجتهادات البائسة، وعلى ذلك بنت ممارساتها السابقة والحالية، فارتكبت فظائع شابهت فظائع «نظامها»، وفرضت قمعاً تفوق أحياناً على قمع ذات النظام.

في السياق السياسي هذا، أي سياق تبادل القمع والإبادة والتفريط، بين النظام ومعارضاته، ينال المتدخلون الخارجيون نصيباً وافراً من أوصاف التخلف والجهالة، بل نصيبهم هو الأوفر، عندما يؤازرون فرقاء القمع «المعارضاتي»، وأطراف التخلف التأويلي، وفصائل الماضوية التي تريد مداواة الحاضر بأسطورة الماضي. وليس في الأمر سراً، فلطالما كان دعم التخلف هو الوسيلة المثلى لتأمين نهب دول الأطراف التي لا تعتقد بما يعتقد «المركز الغربي»، ولطالما كانت حراسة التخلف بأنظمة ديكتاتورية متوحشة، هو الوسيلة الأنجع لجعل تخلف الأطراف تخلفاً مستداماً.

تحالف الرجعيات هو ما يسود الآن في سورية، رجعيات مختلطة عابرة للجنسية، بعضها أصيل ذو وجهٍ عار، وأكثرها يلبس قناع الحرية والديموقراطية، ويرسل كلامه القاتل، وسلاحه الفتّاك، وينتظر جردة الحساب السنوية لدى مراجعة دفاتر حساباته المالية.

سورية إلى أين؟ إلى حيث ما زالت تجرها عربات نهب الرجعيات الأممية… وننتظر.

* كاتب لبناني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى