صفحات سوريةعمر قدور

سوريون ضد شعارهم: الشعب يريد إسقاط النظام/ عمر قدور

 

 

قد تفسّر الحساسية السورية الحالية، تجاه كل ما يصدر عن موسكو، جانباً من الغضب «المعارض» رداً على تصريح سيرغي ريابكوف الذي اقترح فيه نظاماً فيديرالياً لسورية. إنذار جون كيري بالتقسيم، الذي سبق تصريح ريابكوف، لم يؤخذ بالجدية نفسها، على الأرجح لاستبعاد فرضية التقسيم واعتبارها نوعاً من الابتزاز السياسي ليس إلا. ومع أن النظام لم يعقب على تصريح المسؤول الروسي، لا يصعب التكهن بعدم موافقته على أي خطة تنتقص من سيطرته التامة على البلاد، وقد سبق لرئيس وفده في مفاوضات جنيف أن تهكم على الأكراد المطالبين بالفيديرالية ناصحاً إياهم بتناول حبة بانادول.

يحيل الاتفاق الضمني بين النظام والمعارضة، ظاهرياً فحسب، إلى اتفاق عربي (أو عروبي) موجه ضد الأكراد تحديداً، ضداً مما يجرى ميدانياً حيث خرج التنسيق بين النظام وميليشيات وحدات الحماية الكردية إلى العلن وأمام كاميرات الإعلام، بينما تخوض الأخيرة معارك في عدة جبهات ضد فصائل المعارضة. ولئن كان الشعور القومي الكردي صاعداً، على أرضية الدعم الدولي المستجد، لا يمكن رد تمسك النظام بوجوده إلى بعثية تخلت عنها دعايته لمصلحة هجاء العروبة، مثلما تجوز إحالة قسم كبير من رفض المعارضة فكرة الفيديرالية إلى مظلومية الأكثرية السنية وهي ترى نفسها محرومة دولياً من استلام السلطة، ولو تطلب حرمانها تفتيت سورية.

مشكلة التعاطي مع الفيديرالية بصفتها مطلباً كردياً فقط أنها تحرف النقاش مجدداً عن المستقبل الذي يخص الجميع، فتبدو الأكثرية متوافقة على النظام المركزي، بمن فيها سوريون ما انفكوا يرددون شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». ولن تكون هذه الخلاصة مثار دهشة مع النقص المروّع في الأدبيات السياسية عن فحوى النظم السياسية، وعدم تداركه خلال خمس سنوات من الثورة، وصولاً إلى دخول المعارضة قاعات التفاوض بلا تصورات أولية وسيناريوات احتياطية للمستقبل.

أيضاً، تتجلى مشكلة المعارضة، وقسم لا يُستهان به من جمهورها، في فهمها المبسّط لمسألة الوطن والمواطنة وسلة الحقوق والواجبات المتعلقة بهما. ضمن هذا الفهم الذي يطرح العدالة للجميع في الحقوق والواجبات، وينص على سيادة دولة القانون، يبرز التساؤل الساذج عما يريده «الآخرون» أكثر من ذلك؟ بالطبع، تساؤل يحجب آخر على الضد منه: إذا كان الحل هكذا، فلماذا لا يكتفي به «الآخرون»؟

نحن إزاء ثغرتين شديدتي الأهمية في النقاش الحالي، أولاهما النظر إلى مفهوم المواطنة كمفهوم كافٍ ووافٍ، في حين تجاوزته الوقائع على الأرض، ولو موقتاً، لمصلحة هيمنة الجماعات الأهلية، الطائفية والإثنية. والثانية تتعلق باقتراح نظام سياسي بديل عن النظام الساقط فعلاً، لئلا يُعاد إنعاشه لعلة عدم وجود البديل، ولأن النظام الحالي وصل نهايته بفعل الثورة عليه، وبفعل التناقضات الاجتماعية التي استوفى الاستثمار فيها، وحانت لحظة انقلابها عليه.

مفهوم المواطنة المجرد شديد الفردية، وهو يتفق أصلاً مع تجريد مفهوم الدولة لتبلغ أقصى ما يمكن من الحيادية تجاه الأفراد ومختلف نشاطاتهم المحترمة بحكم القانون. في الحالة السورية الراهنة، يصح التشكيك في سهولة الانتقال إلى دولة المواطنة، بعد الانقسامات الطائفية والدينية والإثنية الخارجة إلى العلن، وتالياً بعد اتفاق كل المجموعات الأهلية على سحق صعاليكها في أماكن سيطرتها. الانتقال إلى دولة المواطنة والفرد يقتضي تحولاً مديداً عن حالة الاحتراب الجماعاتي، ويتطلب مناخاً سياسياً لا يؤبّد سيطرة الجماعات على أفرادها، على شاكلة ما يحصل في نظم المحاصصة. لحل هذا التناقض يلزم اقتراح توازن دستوري دقيق، يحفظ حقوق الجماعات، ولا يسمح لها بالتربع فوق حقوق أفرادها. لنتذكر أن إهمال حقوق الجماعات خلق مشاكل بلغت حد العمل المسلح في نظم يصعب النيل من ديموقراطيتها، والمثالان الباسكي والإيرلندي كافيان للدلالة على ذلك.

على صعيد متصل، من الأهمية بمكان أن يتطرق النقاش إلى دور بنية النظام في تحوله إلى الاستبداد. ذلك يقتضي التخلص نهائياً من الموروث الشعوري أو اللاشعوري عن «الحاكم العادل»، ويعني راهناً الاقتناع بأن النظام السوري الحالي سينجب حتماً مستبداً لا يتورع عن ارتكاب الجرائم التي ارتكبت، ومن المستحيل أو شبه المستحيل تصور منحى مختلف، إلا بفعل قوة إكراه خارجية. الأمر ببساطة يتلخص بأن نظاماً شديد المركزية لن يؤدي سوى إلى نوع من الاستبداد، حتى إذا اقتضت الجغرافيا الشاسعة تقسيمات فيديرالية كما الحال في الاتحاد الروسي الحالي.

ما تنبغي ملاحظته في مجمل النظم الديموقراطية، على اختلافها، ذاك السير الحثيث نحو توزيع السلطة من رأس الهرم إلى قاعدته. اللامركزية، بهذا المعنى، شرط أساسي من شروط الديموقراطية الحديثة، بصرف النظر عن الوضعية القانونية للتقسيمات الإدارية. مثلاً، في بلد غير فيديرالي كفرنسا، نرى تقاسماً في مسؤوليات التعليم قبل الجامعي، بدءاً من البلديات الصغيرة وصولاً إلى مجالس المقاطعات، وهذا ينطبق على الكثير من مناحي الحياة. بل يجوز القول أن اللامركزية التي وصل إليها العديد من الديموقراطيات محت الفوارق بين التقسيمات الكلاسيكية من فيديرالية وغيرها، بعدما أدت الأخيرة دورها التأسيسي في الماضي.

في الحالة السورية، سيكون من المجازفة بعد خمس سنوات من تفكك سلطة المركز افتراض عودة المناطق الخارجة عن السيطرة بإرادة سكانها، على النحو الذي كان سائداً من قبل. هذا يشمل كافة المناطق التي خرجت عن السيطرة، وأيضاً تلك التي اضطر فيها النظام إلى إرخاء قبضته أو إلى منح الجماعات الأهلية فيها بعض الامتيازات. وإذا رأى البعض في الثورة انتفاضة المناطق المهمشة، فالتهميش كان دائماً جوهر مركزية النظام، انقلاب البعث أيضاً أتى باسم التهميش السابق ليعيد الكرة على نحو أسوأ، ومن الملحّ عدم تكرار خطأ البعث.

بالمعنى العميق للشعار، نجحت الثورة في أول أهدافها وهو إسقاط النظام، بدلالة البحث الحالي عن بدائل تتراوح بين تعديله وتقسيم سورية، لكنها فشلت في تحقيق هدفها في إقامة دولة المواطنة. أكثر من ذلك، فقدت تلك الأهداف بريقها لدى نسبة كبيرة من السوريين لمصلحة تطلعات أخرى متباينة في ما بينهم. الإصرار على تلك الأهداف، كما هي، يعني «تقدّم» الواقع على الثورة، مهما بدت مُثُلها أكثر تقدمية منه.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى