صفحات الناسهيفاء بيطار

سوريون في هولندا على طريق الاندماج/ هيفاء بيطار

 

 

زرت أمستردام ومدناً هولندية أخرى مثل إيمين، لألتقي أصدقاء سوريين لاجئين، بعد معاناة طويلة شاقة، يصح أن نسميها درب الآلام. كيف يعيش السوريون اللاجئون في هولندا وما حقيقة مشاعرهم، وأي مستقبل ينتظرهم؟ وأيه علاقة تربطهم بالوطن الأم سورية التي لم يتخيلوا يوماً أن يضطروا إلى مغادرتها بعد أن تحولت ساحة حرب ومقبرة جماعية.

التقيت أسراً سورية في هولندا معظمهم من حلب، وغالبيتهم في العقد الخامس (بين 45 و55 سنه) ومعهم أولادهم الذين يقصدون مدارس خاصة لتعلم اللغة الهولندية. تحدثت إلى الأطفال الذين أظهروا تأقلماً إيجابياً مع ظروفهم الجديدة، إذ شعروا بما افتقدوه في سورية: الإحساس بالأمان. لم يخفوا حنينهم إلى أصدقائهم في سورية وإلى الحارة والمدرسة والجيران، لكن المناخ الحضاري واهتمام المدرسين بهم وبذل كل جهودهم ليندمجوا في المجتمع الجديد جعلهم سعداء، يشعرون بطفولتهم ومراهقتهم في شكل صحي. لم أستطع منع نفسي من الإحساس بغصة وأنا أرى أطفال سورية وتلامذتها ما عادوا ينتمون إليها، بل أصبحوا كمن يغيّر جلده بالتدريج ليصير إنساناً آخر. فالكثير من كتبهم ودفاترهم المدرسية مزيّن بعلم هولندا. وحين سألتهم عن سورية واشتياقهم لوطنهم، نظروا إلي نظرة شاردة حزينه من دون أن يقولوا شيئاً. نظرة تعني أنه لم يعد في إمكانهم العيش في سورية وذاكرتهم مزدحمة بكل أشكال العنف الوحشي والإجرام.

هذا الوضع ليس جديداً بالتحديد على أبناء حلب، فلقد خبر سكان المدينة العريقة خراباً وتهجيراً في أواسط القرن التاسع عشر، نتيجة حروب أهلية. وليس الكثير من مظاهر الصراع اليوم في سورية بعيداً من العنف الأهلي.

سيكون جيل أبناء السوريين هولندياً بامتياز، فالمدارس مجانية، والرعاية الصحية ممتازة ومجانية، كذلك النشاطات الثقافية والإجتماعية، والفنية. طفل سوري لا يتجاوز عمره تسع سنوات حكى لي السيرة الكاملة للرسام الهولندي فان كوخ، وأراني ألبوم الصور البديعة لفان كوخ. لم يكن الطفل السوري مجرد معجب برسوم فان كوخ بل كان يشعر أيضاً بالانتماء إلى وطن بديل أمّن له المدرسة التي حُرم منها أكثر من 60 في المئة من أطفال سورية. إحدى المراهقات السوريات حين سألتها : ألا تشتاقين إلى حلب ؟ قالت : أشتاق إليها كما كانت آمنه وجميلة، أما الآن فلا أفكر بها أبداً، بل أحاول أن أنسى كل صور الدمار والقتل فيها. من يمكنه أن يلوم تلك الصبية على أحاسيسها.

أما جيل الآباء، جيل منتصف العمر فيدفنون الجرح عميقاً في قلوبهم ويتظاهرون بالتأقلم مع الواقع الجديد من أجل أولادهم، هم بدورهم تحولوا إلى طلاب. رجال ونساء في الخمسينات أو الستينات من عمرهم، كانوا يعملون في سورية أطباء ومهندسين ومدرسين، وكانوا يشعرون بذاتهم وبمتعة المساهمة في بناء وطن. وجدوا أنفسهم وهم على أعتاب سن التقاعد طلاباً يتعلمون لغة بلد النزوح الذي استقبلهم. الحكومة الهولندية أعطتهم سنتين لإتقان اللغة. اندماجهم مع المجتمع سطحي وشكلي. إحدى السوريات قالت لي أن الشعب الهولندي لطيف جداً وبأنه متعاطف مع السوريين وأن بعض الهولنديين يبكون تأثراً حين تقول لهم أنا من سورية، إذ أصبحت سورية مثال النكبة والوجع والألم، أصبح السوري يثير الشفقة لدى الغرباء الآمنين في بلادهم،

أي وجع مُهين وبالغ الصعوبة أن يجد إنسان في منتصف العمر نفسه مطروداً من بيته – الذي غالباً تحوّل حطاماً، ومن عمله ومن شغفه بالمقهى الذي كان يرتاده مع أصدقائه في مدينته؟ أي وجع أن يجلس هؤلاء السوريون النازحون مع بعضهم ينفثون مع دخان الأركيلة أشواقهم وأوجاع روحهم إلى وطن طردهم من جنته لأن الشياطين استوطنته وحولته جحيماً؟ كل أحاديثهم حول حياتهم وحنينهم للوطن، يحاولون عبثاً تعزية أنفسهم بشتى أنواع الأوهام والآمال، يأملون بأن تهدأ الحرب والإرهاب في سورية، عارفين أن آمالهم صعبة التحقيق، يعزون أنفسهم أنهم نجحوا في اختيار حياة آمنه لأولادهم وتأمين مستقبل لهم، لأن لا أمان ولا مستقبل في سورية، بل دمار يومي وقتل يومي ونزيف مستمر حتى تحوّلت أرض سورية إلى بحيرة من دماء وجثث.

محاولات اندماجهم في المجتمع الغريب الجديد تنتهي بدموع يبتلعونها للداخل وحرقة شوق لوطن ما عادفي الإمكان العيش فيه، إحساس الأمان الذي يعزون أنفسهم به، ومستوى المعيشة الراقي حيث لا تنقطع الكهرباء ولا الماء وحيث الطبابة مجانية، كما يتوافر الأطباء النفسيون لمساعدتهم على الاندماج.

بعض النازحين عجز عن تحمل الحنين اللاذع للوطن فقرّر الرجوع على رغم الجحيم السوري. كيف يمكن أن يعيش الإنسان خارج جلده؟ كيف يمكنه أن يزرع نفسه في تربة ليست تربته ؟ كمن يريد أن يزرع وردة في صحراء! يكفي تفصيل صغير كي يبكي أصدقائي السوريون النازحون. بكت صديقتي حين قلت لها إن موسم العناب كان رائعاً هذا العام، تجسّد الوطن للحظة في ثمرة العنّاب الشهيّة التي لها لون دماء الشهداء والسوريين الذين يموتون يومياً بكل أشكال القتل الوحشي من الساطور والسكين والبراميل المتفجرة حتى الموت غرقاً وغيظاً.

تركت أمستردام ساحرة الجمال وتركت هولندا الآمنة بقلب ثقيل من القهر على أصدقائي السوريين النازحين، فحالهم صعبة وغربتهم قاتلة، والأمان الذي يشعرون به يعوم على بحيرة من دموع الشوق والحنين إلى سورية الأم الثكلى. سورية الوطن الاستثنائي الذي صار قربه عذاباً وبعده عذاباً كأنه ابن مُعاق.

* كاتبة سورية

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى