بكر صدقيصفحات سورية

سوريون وأتراك وحيرة والتباس و… ألم/ بكر صدقي

 

 

جمعت شرطة بلدية فاتح في اسطنبول، قبل أيام، مجموعة من السوريين وأرغمتهم على الصعود إلى إحدى بواخر النقل الداخلي بين ضفتي البوسفور، لتنقلهم من مرفأ سيركجي إلى مرفأ قاضي كوي، بناءً على شكاوى الأهالي الذين اتهموهم بالتسوّل. وحين وصل هؤلاء البؤساء إلى الشاطئ الآسيوي المقابل، أمسكت بهم شرطة بلدية قاضي كوي وأرغمتهم على العودة من حيث أتوا.

كتب أيوب جان، صاحب العمود اليومي في جريدة «راديكال» الالكترونية، أن هؤلاء البؤساء أُرغموا على التنقل بين الضفتين أربع أو خمس مرات في يوم. واعتبر هذه الحادثة بمثابة وصف دقيق للسياسة التركية إزاء الأزمة في سورية. فالحكومة التي تورطت- في رأيه- بالشؤون الداخلية للبلد المجاور، لم تعد تعرف كيف تتصرف مع هذه الأزمة المعقدة، بما في ذلك بعدها الإنساني المتمثل بوجود أكثر من مليون لاجئ سوري على أراضي تركيا، أقل من نصفهم في مخيمات نظامية، فيما تنتشر البقية في المدن، ويفترش كثيرون الحدائق وباحات الجوامع.

مضى الآن نحو ثلاث سنوات على بداية موجات اللاجئين السوريين إلى تركيا، وبات في الإمكان تحليل العلاقات بين المجتمعين المحلي والوافد على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، خصوصاً أن هذه العلاقات شهدت بعض التوترات غير المفاجئة في عدد من مناطق اللجوء، في الريحانية وأنطاكيا وأنقرة، وأخيراً في غازي عينتاب التي كانت، إلى ما قبل أيام، مثلاً يقتدى به للتعايش وتقبل سكان المدينة للوافدين السوريين.

قامت السياسة السورية للحكومة التركية على فرضية أن النظام في دمشق سيسقط خلال أسابيع أو أشهر قليلة، على غرار ما حدث في تونس ومصر، وفي أسوأ الأحوال كما حدث في اليمن أو ليبيا. انكشف مدى جهل الحكومة التركية والرأي العام التركي بتعقيدات الأنظمة والمجتمعات العربية التي اندلعت فيها ثورات الربيع العربي، وتبيّن أن مصدر معلوماتهما الوحيد عن سورية هو جماعة الإخوان المسلمين الذين يتمتعون بحظوة لدى حكومة «العدالة والتنمية». فإذا عرفنا أن قيادات «الإخوان» السوريين عاشوا في المنافي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ويجهلون كل شيء تقريباً عن سورية والمجتمع السوري في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، لأمكننا تخيل البناء المعرفي الهش الذي قامت عليه سياسة الحكومة التركية تجاه ثورات الربيع العربي، خصوصاً الثورة السورية.

انقسم الرأي العام التركي، إزاء سياسة حكومته، بين مؤيد للثورة «السنّية» ضد نظام «علوي»، ومعارض لها من منطلقات متعددة (علويون مؤيدون لنظام الأسد، يساريون معادون للإمبريالية المتآمرة على «سورية الممانعة»، علمانيون معادون لـ «إسلامية» الثورة). وانعكس هذا الانقسام على الموقف من اللاجئين السوريين والمعارضين الموجودين على الأراضي التركية، فاحتضنهم مؤيدو حكومة أردوغان في البدايات، وافتعل معارضوها مشكلات معهم، وساهموا في الحملة الإعلامية المركزة على الثورة السورية، باتهامها بالإرهاب والتكفير، قبل أن تتمدد موجة الجهاديين على أرض سورية.

الواقع أن شبكات تجنيد من ثلاث جهات اشتغلت، داخل المجتمع التركي، على رفد الحرب في سورية بالمقاتلين. أولاها منظمة يسارية هامشية تدعى «المستعجلون» تنشط في أوساط علويي لواء اسكندرون، جندت شبّيحة للقتال دفاعاً عن نظام الأسد، ويقودها المدعو معراج أورال (علي كيالي) الذي تنسب إليه مجزرة بانياس وتفجير السيارتين المفخختين في الريحانية، في أيار (مايو) 2013.

الثانية، جهاديو تنظيم «القاعدة» الذين قاموا بتجنيد شبان أتراك متشددين وإرسالهم للقتال في صفوف «النصرة» و «داعش» و «أحرار الشام» وأمثالها من المنظمات الجهادية في سورية.

أما الثالثة فهي البيئة الكردية الموالية لحزب العمال الكردستاني التي رفدت «قوات الحماية الشعبية» التابعة لـ»PYD» بمتطوعين كرد في شمال سورية وشمالها الشرقي.

يتصف المجتمع التركي بدرجة متقدمة من الانغلاق الثقافي على الذات. فإذا قمت بمتابعة وسائل الإعلام، وجدتَ أنها متمحورة حول الشؤون الداخلية إلى درجة تجاهل ما يجري، ليس في العالم الواسع فقط، بل حتى في الجوار القريب. الانقطاع الثقافي عن الجوار العربي الذي تم مع تأسيس الجمهورية على أنقاض الامبراطورية العثمانية، ترسَّخ بصورة يصعب عكسها. هذا الانغلاق فعل فعله في تنميط «السوري» في الوعي التركي. فإذا قام أحد السوريين بخرق للقانون أو العرف الاجتماعي، أصبح «السوريون» في الوعي التركي ميالين الى خرق القانون والأعراف. وهكذا أصبح هؤلاء، جملةً، «وسخين، يصدرون الضوضاء، لا يدفعون إيجارات بيوتهم وفواتيرهم»، فضلاً عن أنهم «يملأون كل مكان».

الواقع أن الأعداد الكبيرة من اللاجئين الذين يواصلون التدفق عبر الحدود المشتركة الطويلة، ملأوا المدن التركية بصورة ظاهرة للعيان، إلى درجة أنهم يتداولون نكتة تقول: «ما زال في كيليس أو عنتاب أو أورفة أو الريحانية بعض الأتراك!»، ويتمركز عدد كبير من مؤسسات المعارضة والمنظمات من جنسيات مختلفة عاملة في شؤون تتعلق بالأزمة السورية في مختلف المدن التركية، بخاصة في الولايات الحدودية الجنوبية. وساهم السوريون في ارتفاع إيجارات البيوت وانخفاض أجور العمال المحليين أو انضمام بعضهم إلى جيش العاطلين من العمل. أضف إلى ذلك إقبال الأتراك المتزوجين على الزواج من فتيات سوريات كزوجة ثانية بسبب انخفاض التكاليف، على رغم أن القانون التركي يمنع تعدد الزوجات.

كل ذلك أدى إلى نشوء حساسيات في المجتمعات المحلية تجاه اللاجئين السوريين. وبعد إحراق بناية يسكنها سوريون في أحد أحياء أنقرة، في أيار الماضي، وحوادث مشابهة في الريحانية، خرجت أول تظاهرة ضد اللاجئين السوريين في غازي عنتاب، عاصمة الحكومة السورية الموقتة، بعدما كانت هذه المدينة أفضل ملجأ للسوريين في تركيا من حيث تقبلهم الإيجابي، من السكان.

وضع السوريين في تركيا ملتبس، فلا هم لاجئون وفقاً للتعريف الرسمي الدولي، ولا هم «ضيوف» موقتون كما توحي البـــطاقات التي تمنحهم إياها الحكومة التركية وتعطيهم الحق في تأمين صحي شامل كالمواطن التركي.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى