ابرهيم الزيديصفحات الناس

سوريون وبؤس لبناني في سوق الأحد/ ابرهيم الزيدي

… وما أدراك ما سوق الأحد؟ هو سوق البؤس، بؤس البضاعة، وبؤس الزبائن، يلتقون هناك. المنتجات غير الخاضعة للتصنيف التجاري، والمراقبة الصحية، ألبسة البالة، السندويش والكازوز والحلويات، والكثير من مخلّفات قمامة الفئة الاجتماعية الأولى. ففي قمامة هذه الفئة ما تحتاجه الفئة الاجتماعية الأخيرة. هكذا تلتقي الناس بحاجاتها. هنا في سوق الأحد، يستطيع الفقراء أن يشتروا لأبنائهم ألعاب “جويي كلوب”. تستطيع امرأة العامل السوري، أن تقتني جزدان “شانيل”، والعاملة السري لانكية أن تحصل على “سابو ناين ويست”. هنا في سوق الأحد يتصالح الناس مع عوزهم، وتصبح الأماني قابلة للتحقيق.

من بين الضجيج، وصوت الأغاني الهابطة، يتسرب إلى مسمعي صوت أحدهم، يقول للآخر “وين رحت يوال؟”، فتحضر الرقّة في البال. غير بعيد مني، امرأة تقول لمرافقها “تشكل آسي” فتحضر دمشق. في الطرف الآخر من البسطة، يلتقي شابان للتوّ، فالتقط من كلامهما كلمة “جاواي جت حاليتا”، فأعرف أنهما من الأكراد. في هذا الملتقى، لا تحتاج البضاعة إلى محال وديكورات ومختصين بفن العرض. تبحث عن حاجتك بنفسك، فإن وجدتها، واستطعت التعرف إلى البائع، يمكنك مناقشته على سعرها، وإن لم تستطع التعرف إلى صاحب البسطة، فعليك أن ترفع ما تودّ ابتياعه بيدك عالياً، ليراك.

كتب وسؤال وقهوة

تستوقفني بسطة للكتب القديمة، معاجم وموسوعات وروايات، وكتب مدرسية. تلك البسطة لا تحظى إلا بالقليل من الزبائن! أتوقف عندها، وأروح أقلّب في الكتب، فيتقدم مني شاب قائلاً: لديَّ هناك كرتونة أخرى، شوفها لربما تجد فيها ما تحتاجه. أعرف أنه صاحب البسطة. أقول له: في الحقيقة أحتاج إليها كلها، لو يكون عندي مكان لها. يبتسم، ويسألني: حضرتك سوري؟ نعم، أجيب، وأنت؟ أنا من حلب، يجيب. في هذه الأثناء يمرّ بنا بائع القهوة المتجول، فابتاع لنا فنجانين من القهوة.

يتشعب الحديث كثيراً قبل أن أعرف أنه طالب في جامعة بيروت العربية، يدرس الحقوق، وقد تعثر الوضع الاقتصادي لإخوته الذين يعملون في المنطقة الصناعية، فرحلوا إلى مدينة طرطوس، مما اضطره للعمل على هامش الدراسة. ولأن الكتب ليس لها سوق رائجة كبقية الأشياء التي تنوجد عادة في بسطات سوق الأحد، يزهد بها أصحابها، فيشتريها منهم، ويبسطها، في محاولة لإضفاء نوع من الاختصاص على عمله، يقلده في ذلك أكثر من شاب، أغلبهم من السوريين الذين يدرسون في الجامعات اللبنانية. من طرائف ما ذكره لي، أنه يحاول أن يوجد نوعاً من اختصاص الاختصاص، أي يحاول إقناع أصدقائه بأن يختص كل منهم بنوع معيّن من الكتب.

كالفرق بين بسطتين

ينضم إلينا جاره في البسطة، أبو اسكندر، شاب لبناني، يعمل سائقاً للأجرة، في أيام الأسبوع، ويستبقي المالك السيارة يوم الأحد لمشاوير الأسرة، بينما يتفرغ هو للعمل بسوق الأحد. يأتي مبكراً، ويبدأ بشراء ما يراه قابلاً للبيع والربح من بسطات الآخرين، وبعد أن يجتمع لديه ما يكفي، يعرضه للبيع. كان الفرق بين أبي اسكندر، وجاره بائع الكتب السوري، كالفرق بين البسطتين. فالشاب السوري كان منغلقاً، وتحتاج إلى الكثير من الوقت لمعرفة أفكاره وتوجهاته ومعاناته، أما أبو اسكندر فواضح، ومعلن. ككل اللبنانيين تجد الشتائم في لغته مراحها، ولا تلمس خوفه من عواقب تلك الشتائم وخصوصاً التي يكيلها للمسؤولين. يعتقد أن الطائفية هي التي تحكم لبنان، لا المؤسسات. ولبنان في رأيه ليس أكثر من سوق لمنتجات الآخرين، بما في ذلك السياسة. حين أقول له إن السياسة فنّ وأفكار، وليست بضاعة، يجيب: كلّو بضاعة، لينصرف من ثمّ إلى أحد الزبائن. أسأل بائع الكتب عن أمكنة زملائه من بائعي الكتب، فيدلّني إلى واحد منهم.

أ. ن. يجسد مأساة من نوع آخر، مأساة مركّبة، فصولها في محافظة إدلب، حيث كان الأب في سلك الأمن الداخلي، وحين اعتقل الإبن الأكبر بسبب نشاطاته في التظاهرات، كان الأب يقاتل إلى جانب النظام، وقُتل قبل أن يعلم باعتقال إبنه، فصارت العائلة في حيرة من أمرها. هي حيال مقتل الأب تعتبر في نظر النظام أسرة شهيد، مات دفاعاً عن الوطن، وحيال اعتقال ابنها تعتبر عائلة مارقة، وخائنة، وإرهابية. هي ثنائية في نظر السلطة والمعارضة على السواء. في ضوء هذا الواقع، لم يجد أ. ن. بداً من مغادرة البلد، والإقامة في حي السلّم، منضماً إلى مجموعة شباب يعملون في سوق الأحد.

س. ع. أحد أصدقاء أ. ن. كان لديه هو الآخر بسطة من تلك التي تحتوي على كل شيء: أحذية بالية، جزادين نسائية، لوحات، براويز، فناجين، كاسات، وأشياء أخرى كثيرة ومتنوعة، كلها بالية. أسأله من أين يحصل على هذه الأشياء؟ يجيب: نشتريها. في ناس بتنكش حاويات القمامة، بيطلعوها، وبيجمعوها، ونحن نشتريها منهم بالجملة، بالكوم. بكم تشترون الكوم، أسأله؟ لكل كوم سعر. اللي بينكشوا زبالة الأحياء الغنية، بتكون بضاعتهم غالية، لأنو بتلاقي أشيا ثمينة بين الأغراض، تكون بنص عمرها. اللي بينكشوا زبالة الأحياء الفقيرة، زبالتهم كمان فقيرة متلن، يقولها ضاحكاً. أسأله: هل أنت متفرغ لهذا العمل؟ لا، لستُ متفرغاً له، يجيب، ففي ظل كثرة اليد العاملة، تصبح أيام العمل متقطعة. أحياناً أشتغل لمدة أسبوع متواصل، وأحيانا أبقى بدون عمل لأيام.

هو الآخر من حلب، وقد حاولت أن أعرف منه شيئاً عن وضعه، إلاّ أنه لا يتحدث، مكتفياً بالقول: اتركها على الله. أودّعه لالتقاط بعض الصور من مكان مرتفع قليلاً. أرى كرسياً فأستأذن صاحبه الذي يسألني عن طبيعة عملي، فتنفرج أساريره عندما يعرف أنني صحافي. يخاطبني بلقب أستاذ. هو من ريف حلب، من منطقة دير حافر، على طريق حلب – الرقة. كان لديه في دير حافر دكان، إضافة إلى أرض زراعية: “كنا مبسوطين، وعين الله علينا. ما بعرف منّين طلعولي بهالثورة؟ بهدلونا وشرّدونا”.

كنت قد انتهيت من التقاط الصور، فجلست على الكرسي أستمع إليه، فانضمّ جاره في البسطة، أو شريكه، لا أعرف، وصار يتحدث عن الدعم الروسي والإيراني، وأخذ موقعه المتقدم في التحليل السياسي، فسألته قبل أن يأتي إلى لبنان، ماذا كان يعمل في سوريا؟ قال إنه كان يعمل سائقا في مديرية الخدمات الفنية بحلب، مضيفاً: كأنّو كلامي ما عجبك؟ قلت: لا. أبداً. أنا صحافي، والأمانة تقتضي مني نقل الحديث في عملي، فإن كنت تسمح فسأكتب ما قلته حرفياً. اقترب مني هامساً: بس لا تكتب اسمي. في هذه الأثناء مرّ بنا شاب، حين رآني تقدم منّي، وسلّم عليَّ بحرارة، فخجلت منه، إذ بدا لي كأني لا أعرفه. بيد أنه تدارك موضحاً، قائلاً لي إنه ط. ش. وإننا جيران في ما مضى من عمر. ذكّرني بوالده، وإخوته، فاستعادت ذاكرتي تلك الأيام. سألته عن أهله، وأوضاعهم، وعن عمله في بيروت، فقال إنه يودّ المغادرة، ودعاني أن أرافقه، فثمة كافيتريا قريبة، ويرغب بأن نشرب فنجانَي قهوة معاً، فكان له، وفي قصته التي رواها لي في الكافيتريا، وجدتُ خاتمة للأفكار التي راودتني عن سوق الأحد.

لهجة الفرات ونسائم الرقة

ها أنا ذا والرقّة نلتقي مرة أخرى، إلى فنجان قهوة. تلفحني لهجته كنسمة باردة، تلك اللهجة الفراتية التي ولدت في البادية، واغتسلت بماء الفرات. يسألني إن كنت ما أزال على قيد الكتابة ؟ أجيب: هذا يتوقف على ما ستقوله لي. فأنا أكتب تحقيقاً صحافياً عن سوق الأحد، فترتسم الدهشة على محياه: بيني وبينك، لقد ستر علينا هذا السوق، من حيث أن العمل فيه لا يحتاج إلى رأس مال كبير، والعمل فيه يقوم على الأمل. أحيانا ينتهي النهار بغلة وفيرة، وفي الحد الأدنى هو أفضل من العمل لدى الآخرين، حيث يكون الأجر محدوداً. غالبية العاملين في سوق الأحد دخلهم الشهري يتجاوز 800 دولار، وهذا لا يتوفر لغالبية العاملين في باقي المجالات. سابقا كان أبناء قرية البوحمد والقرى المجاورة لها في ريف الرقة، قد تفرغوا لهذا العمل، نساءً ورجالاً. سوق الجمعة في الرقة هو وليد سوق الأحد في بيروت، فبضاعة سوق الجمعة في الرقة كانت كلها من سوق الأحد، ثم تطور الأمر، وأصبح لسوق الجمعة أكثر من ملحق (سوق خضرة، سوق الأثاث المستعمل وغير ذلك) وأصبح محجاً للبؤس الرقّي. لم يكن يخطر في البال أن قربه من الفرقة 17 سيكون سببا في إغلاقه، كما حصل لاحقاً. السري لانكيات ليسن سوى زبائن في سوق الأحد. إنه قائم على السوريين واللبنانيين، الذين تتشابه أوضاعهم مع أوضاعنا. أنا شخصيا مدمن سوق الأحد، حين أكون في منطقة “سوليدير” أو “زيتونة باي” أو شارع الحمراء، أشعر بالغربة، إذ لا شيء لي هناك، كل ما هو معروض ليس معروضاً لي. أما في سوق الأحد فأحس أنني في مكاني الطبيعي. في إمكاني أن أبتاع أي شيء يعجبني. بضاعة المولات، والسيتي سنتر، وأسواق بيروت، ليست لأمثالي. إنها لطبقة أخرى من المجتمع.

أسأله عن عمله، وسكنه، يجيب: أعمل في ورشة للدهان وأتشارك السكن مع 12 شاباً آخرين من ريف الرقة، في منطقة الشياح، أربعة منهم يشتغلون في سوق الأحد. أسأله هل يعرف شيئاً عن معاناتهم في العمل: يعتبرون أبناء مدينة حلب، خصومهم التجاريين. فالحلبيون يفهمون بالبيع والشراء، ويعرفون قيمة الأشياء، أكثر منا. نحن أبناء ريف، نفهم في الزراعة، وتربية الماشية، أما البيع والشراء فتجارة لا نتقنها، إنها من اختصاص أبناء المدن. هذه شغلة الحلبيين. لديهم رأس مال، لذلك دخلوا السوق بقوة ومعرفة. اللبنانيون لا يستطيعون مزاحمة السوريين في سوق الأحد، لأن حياة اللبنانيين، ومصاريفهم كبيرة، بينما السوريون، وخصوصاً الذين يعملون في سوق الأحد، مصاريفهم بسيطة. السكن الذي نسكنه لا يلائم اللبنانيين، وطبيعة حياتنا، ومصاريفنا، كلها بالحد الأدنى، لذا فإن أي مدخول اقتصادي يناسبنا (اللبناني ما بتوفّي معاه). الحلبي شيء آخر. فالحلبيون كلهم استأجروا محلات في الضاحية وحي السلم وطريق الجديدة، وأصبح لديهم أشهر محلات البالة في لبنان، وما لا يجد له سوقا في محلاتهم، يحضرونه إلى سوق الأحد (ناس بتعرف سر المصلحة).

هذه ليست قصة سوق الأحد. إنها قصة حزام البؤس الذي يزنر المدن العربية. هذا البؤس ليس مرتعاً لليد العاملة الرخيصة وحسب، بل هو مراح ومستراح للأمية والجهل والتخلف، وما يتبع كل هذا من موبقات العيش الكريم.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى