صفحات الناس

سوريون يبحثون عن هوية/ حسين عبد الحسين

 

 

كان كبيراً المجهود الذي وظّفه عدد من المعارضين السوريين في واشنطن لتنظيم لقاء جمعهم، بمشاركة نحو 25 من أعضاء الكونغرس من مؤيدي إنهاء حكم الرئيس السوري بشار الأسد، وهو لقاء نظّمه وموّله السوريون الاميركيون ذاتياً.

على أن النقاشات المتنوعة اثبتت أن إعادة بناء دولة نخرها فساد آل الأسد واستخباراتهم على مدى أكثر من 40 عاماً ليس بالأمر اليسير، فقبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، كانت كل أحزاب السوريين ملكاً لصاحبها “حزب البعث العربي الاشتراكي”، فيما كانت السيدة الاولى أسماء الأسد، تتلهى بإدارة الجمعيات المدنية الأكثر شبابية.

بعد اندلاع الثورة، التي حوّلها نظام الأسد الى عنف منقطع النظير، مع شلالات دماء ممزوجة بأسلحة كيماوية، وعلى وقع براميل متفجرة بدائية وقصف عشوائي، وجد السوريون انفسهم بلا تنظيمات تدير طموحاتهم وشؤون ثورتهم، فتقدمت التنظيمات العنفية الى الواجهة، وراح الثوار السوريون يغرقون في عملية اثبات للعالم انهم سليلو حضارة عريقة، وانهم ليسوا ارهابيين ولا برابرة من وليدي الأمس.

يتحدث أحد الحضور في جلسة نقاش حول “الهوية السورية”، والذي قدم نفسه على انه “الدكتور محمد”. يقول مستاء “ذهبنا الى العالم نقول لهم اننا نريد حرية وديموقراطية، فردوا ان علينا ان نثبت لهم اننا نفهم في حقوق الانسان والنساء، وكأننا شعب بلا تاريخ ولا حضارة”.

على أن تعريف “الهوية السورية” كان عسيراً، حتى على مجموعة من النخبة السورية، فغالبية المشاركين كانوا من المثقفين ومن اصحاب الشهادات العليا والوظائف الرفيعة.

الاقليات تنشد الانصاف. معلوم ان الطغاة، مثل الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والحالي بشار الأسد، منصفون في دمويتهم، التي لا تفرق بين مسلم او مسيحي، ولا عربي أو كردي. لكن الاقليات غالباً ما تعرضت لظلم مضاعف، فترى مسيحيي العراق مجبرين على حمل علم مكتوب عليه عبارة “الله أكبر”، وترى السوريين، من العرب وغير العرب، يرددون نشيدهم “حماة الديار عليكم سلام، أبت ان تذل النفوس الكرام، عرين العروبة بيت حرام”.

يقول أحد المشاركين القادمين من سوريا، وهو من “الحركة الآثورية”، إن مجموعته تطمح لسوريا علمانية لا مركزية.

العلمانية موضوع شائك. “اصدقاء سوريا” كانوا اعلنوا علمانية سوريا، فيما بعض هؤلاء الاصدقاء أنفسهم، مثل الولايات المتحدة، ليسوا من الدول العلمانية. ثم يدور نقاش حول العلمانية، يقول أحد المشاركين ان في العالم نوعين من العلمانية، الفرنسية والتركية، والتي تحظّر الدين، والانغلوسكسونية، التي تعترف بالتنوع. لا يبدو ان صاحب الرأي المذكور يفطن الى ان الدولة الاميركية، التي يسميها علمانية، تقول في “قسم الولاء” الخاص بها “أمة واحدة، تحت الله”، أو أنها كتبت “ثقتنا بالله” على عملتها. ملحدو الولايات المتحدة لطالما ازعجتهم هذه المظاهر الدينية في الدولة، ومولوا حملات دعائية باهظة للتخلص منها، من دون ان يوفقوا في ذلك.

“ما هو العقد الاجتماعي الجديد الذي تريدونه؟” يسأل صحافي من الحاضرين بالانكليزية. يجيب احد المتحدثين في الجلسة انه لا يرى ان على الدولة السورية القادمة ان تحدد معتقدات السوريين، ولا دياناتهم، ولا هوياتهم الثقافية، ولا ما يقولونه او يفعلونه، او ما يأكلونه او يشربونه في الاماكن العامة. “مهمة الحكومة تنظيم الحيز العام، وادارة موارد الدولة وضرائبها فحسب”، يتابع المتحدث.

وفي مؤتمر المعارضين السوريين حوار عن حقوق المرأة في “سوريا الجديدة”، لا امرأة واحدة على غرار الماضي، الذي قدمت فيه دمشق امرأة واحدة وحيدة اسمتها “وردة الصحراء”، أي عندما قامت اجهزة الأسد بمحاولة تحسين صورته لاخراجه من عزلته الدولية، فأقنعت مجلة عالمية مشهورة بالثناء على أسماء الأسد. منذ ذلك الوقت، اعتذرت المجلة عن المقالة الفضيحة، التي صار يصعب العثور عليها عبر محركات البحث على الانترنت.

هو نقاش حيوي بين سوريين يطمحون لسوريا جديدة مختلفة عن “سوريا الأسد”، التي لم تعرف غالبيتهم غيرها، وهو نقاش، على تعقيداته، يدور في كل دول العالم، حتى تلك التي تعيش في استقرار نسبي. هذه الولايات المتحدة منخرطة في نقاش متواصل حول حقوق الفرد وصلاحيات الدولة: هل يمكن للحكومة منع “زواج المثليين” أو “تحريم الاجهاض”؟ وان كان على الدولة ان تنكفئ عن شؤون مواطنيها، فلماذا تنفق على تعليمهم وشؤونهم المعيشية الاخرى؟

الدول متغيرة، وشعوبها تتفاعل باستمرار وتطور هويتها. حتى لو لم تنجب الثورة السورية مؤسسات يمكنها ادارة شؤون السوريين بدلا من مؤسسات الأسد المهترئة، الا انها ادخلت سوريا نادي الدول التي يتحاور فيها ابناؤها حول هويتهم، ويطورونها بشكل مستمر، بعيداً عن الهويات الموروثة من ماض، في الغالب متخيل، يقوم بفرضها على المواطنين نفر ممن يجيزون لأنفسهم فرض هندسة مجتمعية وسياسية، وهم في غالب الاحيان من اصحاب المقدرات المحدودة التي بالكاد سمحت لهم الانخراط في سلك التعليم الابتدائي.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى