صفحات الحوار

سوزان ابراهيم: في دمشق تولد حركة شعرية جديدة/ عناية جابر

 

 

سوزان ابراهيم قاصة وشاعرة – عضو اتحاد الكتاب – تحمل إجازة في اللغة الانكليزية ودبلوم التأهيل التربوي- عملت في الترجمة قبل انتقالها للعمل في الصحافة الثقافية، وفي أرشيفها مئات المقالات الثقافية والحوارات والتحقيقات. تعمل وتقيم في دمشق. وكان معها هذا الحوار.

– في قصيدتك، هذا التركيب الفني الشعري. كيف تشتغلين على قصيدتك ومن اين تبدأ كتابتها من الفكرة أم من اللغة؟

* لا تبدأ القصيدة عندي لحظة كتابتها، هي تولد في تلك اللحظة، وقبل ذلك تكون في حالة كمون جنينية. لا أعرف بالضبط كيف ومتى تبدأ! غالباً تباغتني بفيض ودفق، وقد تباغتني بابتعاد ونضوب. أنا والقصيدة نتداخل كخلجان ورؤوس على شاطئ اللغة. ندخل معاً في لعبة جميلة أو مغامرة اكتشاف أحدنا للآخر. هي لعبة مغرية وساحرة قد تنسحق روحي خلالها، لا لتفنى بل لتأتلق شعلتها من جديد… أحياناً أجُّر القصيدة من أذنيها، ومرات هي من يفعل ذلك بي.. الفكرة بيضة التكاثر، واللغة منقار الصغير الذي ينقر قشرة البيض للخروج. أنا واللغة عاشقان نحاول فك رموزنا، وطلاسمنا واختراع مناطق جغرافية في اللغة لم تُكتشف قبلاً. أنا والقصيدة نقضي الوقت في وشم روح أحدنا على جسد الآخر.

– الشفافية والرقة ثم الحكمة، في إصدارك “أكواريل” لمن تتوجهين في الشعر، لأيّ قارىء؟

* “أكواريل” تعني، كما تعلمين، تقنية الرسم بالألوان المائية، وهي ألوان تتمتع بالشفافية البالغة والرقة وهذا بسبب الماء. الماء ربما كان المخلوق الأول. والمعلم الأول. وبما له من عمر عتيق فهو يتمتع بالحكمة بالتأكيد. هذه صفات الماء بطبيعة الحال. يكفي أن ننظر إلى تدفقه في كل مكان. لنرى قدرته الخارقة على الانسجام مع كل محيط يحتويه في واقعنا الحالي ثمة تضاريس وحشية من الرعب والقتل والتهجير. إنها جغرافية القتل بكل قسوتها. ولن يكون هناك من هو قادر على مواجهة كل ذلك العنف سوى الشفافية والرقة والحكمة. ألم تسمعي بطريقة الصينيين القدماء بتعذيب وقتل العصاة: بالماء يقطر نقطة نقطة على بقعة محددة من الجسد حتى يتلفها وتمرض وتبعث بصاحبها إلى الموت. إنه الموت بهدوء وهذا لم يعد متاحاً في عالمنا. ربما كان من الصائب- من وجهة نظري على الأقل- الرد على كل العنف والقسوة بطريقة مبتكرة أي بهدوء الماء.. بحب الماء.. بحكمة الماء… وبقدرة الماء على التأقلم والتجديد.

صحيح أن عالمنا اليوم عالم مجنون ويحتاج إلى مشفى للأمراض العقلية، لكنني أحاول العيش فيه بطريقتي المتواضعة التي لا يريدها أحد الآن على الأغلب. العيش بهدوء والبحث عن السلام على ضفتي جرح نازف. العيش على هامش البساطة بحثاً عن تأمل عالم آخر يخرجني من هذا الجحيم المستعر ههنا. لأي قارئ أكتب؟ لا أعلم. لا يهمني في مثل هذه الأوقات القارئ إذ كنت أكتب لأنقذ روحي في هذا العالم الصاخب بالجنون، وليته جنون الإبداع. لكنه وأحافظ على بعض عقل متب جنون العنف والبربرية والقتل. في زمن القتل يبدو أن لا صوت يعلو على صوت الرصاص. أتمنى بشكل عام أن أجد قارئاً حقيقياً حكيماً هادئاً قادراً على القراءة بصبر ناسك بحثاً عن معناي.

– قصيدتك بريئة من الأفكار الكبيرة في الشكل، وفي العمق هي مكتنزة بفلسفة حياتية ولها وجهة نظرها في العالم وفي الشعر ايضاً…

* لقد انتهت عصور الأفكار الكبرى والشعارات الكبرى. لقد سقطت جميعها سقوطاً مريعاً.. انظري إلى كل الأفكار والشعارات الكبرى التي حشوا بها عقولنا وحيواتنا. أولئك الزعماء والمناضلون الكذبة الكبيرة التي ما زالت تلاحقنا. العالم لم يعد يتسع إلا للتفاصيل الصغيرة. للآلام الفردية ربما- فالمجاعات والمجازر والمقابر الجماعية ما عادت تحرك مشاعر أو تعاطف أحد!! التفاصيل الصغيرة هي ما يعطي الخصوصية لكل منا. التفاصيل أو الأخطاء أو العيوب. لا يهم.

في “أكواريل” حاولت تأنيث المفاهيم، فأعدت تعريف أشياء كثيرة بلغتي وفلسفتي أنا. لا أريد ترديد ما جعلنا الكبار نحفظه عن ظهر غباء ونعيده ونكرره بناء على رؤيتهم هم وفلسفتهم هم.

هنا أقدم فلسفتي أنا في كل ما أعيشه وما يحيط بي: ابتداء من الطبيعة التي أعشق. إلى الدين والمقدسات، إلى الفكر العربي والشرقي، إلى ما هو الحاضر الأكثر ألماً على ساحة شعري وأعني الاوضاع في سوريا. حيث أقدمها من وجهة نظر شاعرة مواطنة عاشت الكثير من تفاصيل الرعب والتهديد والنزوح. إنها خبرتي في الحياة واللغة والشعر حيث أعيش يومياتي بكاميرا روحي وعقلي المفتوحة دوماً كنت طفلة قارئة. كثيرة الصمت قليلة الكلام. في بيئة طبيعية أخاذة بين أشجار الحور والصفصاف على ضفاف بردى قضيت معظم طفولتي. قرأت عن الساحرات والعوالم الطفلية الخيالية البديعة وعشت داخلها معظم الوقت، وفي البيت كان ثمة أب قارئ وحّكاء بارع. يخترع الحكايات التي يتلوها على مسامعنا كل ليلة، وأنا ألاحق شفتيه وألفاظه. وأرسم الشخصيات والكائنات حسب ما أريد. هناك بدأت السير على درب اللغة والخيال ومازلت. كتبت أولى محاولاتي وأنا في الصف الثامن الإعدادي. قصيدة عن آذار ربما… ثم استمرت محاولاتي في كتابة الخاطرة والشعر الموزون ثم التفعيلة خلال المرحلة الجامعية. ثم وجدتني أحط أخيراً في عوالم قصيدة النثر الرحبة علاقتي بالكتابة علاقة مساكنة. هكذا اتفقنا أن تبقى. أحياناً أمارس الحياة بها وعبرها. وأحياناً فأحاول التملص منها. لا أريدها واجباً بل شغفاً. وهكذا أفعل دوماً. لا أخصص لها تُثقل علي وقتاً محدداً. وقد يكون الوقت كله لها. أنانيتها جعلتني أنفرد بها في سكني.. ولا أطيق إلى جانبها شريكاً.. معها أشعر باكتمالي.. وأحياناً بانشطاراتي الكثيرة.. كما أرغب بحريٍة واسعة المحيط، هي ترغب بذات المحيط من حريتي وتملؤه تماماً أما عن علاقتي بالقص. فقد ذهبت إليه بوعي وقصدية، على خلاف الشعر الذي جاءني وأخرج ما بداخلي على شكل قصائد. في القص أو السرد ثمة منطق لابد من توفره وعلاقات متناسبة بين الأشخاص. إنها شكل آخر من الحياة- بينما الشعر شكل من الروح- أنجزت في القص حتى الآن ثلاث مجموعات وشعرت- على الأقل حالياً- أنني اكتفيت منها بين يدي مشروع رواية أكتبها ببطء السلاحف. فالأرانب الشعرية تتقافز حولي كل الوقت وتسبق سلحفاة الرواية.

– ماذا عن المشهد الشعري حالياً في سوريا؟

* كلمة المشهد الشعري في سوريا تبدو لي الآن فضفاضة، ولا يمكن بكل الأحوال لي أو لغيري أن يقف على تفاصيله وحيثياته، فقد بات مشهداً متشرذماً كما حال البلاد والناس. يمكنني الحديث عن الحركة الشعرية الحالية داخل دمشق بحكم قربي وتعاملي معها. ثمة إصرار من الجديد- جيل الأزمة إن صح التعبير- على النهوض والخروج من مجارير الدم ومستنقعات الدمع والبقاء على السطح والتعرض لضوء الشمس للتطهر من الحزن والألم والخوف. ثمة أصوات جديدة متميزة لا يمكنني رصدها كلها. لكن المميز هو تلك اللغة الجديدة والصورة الجديدة والتعامل مع كل مفرزات الأزمة والحرب بذكاء بعيداً من الشعارات والمقولات الكبيرة الفارغة والطنانة وعلى صفحات “فايسبوك” – رغم كل الهراء الذي ينشر- ثمة أصوات سورية لامعة تقدم نفسها بقوة بعيداً من احتكارات الشللية والنفاق و”زعبرات” الموالاة والمعارضة. أعتقد أننا بصدد خلق جيل شعري جديد أو حركة شعرية جديدة سورية – من داخل سوريا وخارجها بالطبع – والسنوات المقبلة كفيلة بتخليقها وولادتها.

المدن

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى