صفحات الرأي

سوق العمل الأميركي.. كارثة

جوزيف ستيغليتز
من المفهوم، نظراً لعدد الإشارات إلى حصول نمو اقتصادي (green shoots)، التي توالت بالظهور منذ نشوب الانكماش في كانون الثاني 2007، ان يكون هناك بعض التشكيك في ما يتعلق بالقول إن الانتعاش يشقّ أخيراً طريقه. بالنسبة لي، السؤال ما هي النتائج التي تترتب على صعيد السياسة؟ هل يعني ذلك أن نشعر بالراحة بإزاء مطالب المحافظين الماليين القاضية بخفض الموازنات؟ أو أن يعطي المجلس الاحتياطي الفيدرالي المزيد من الاهتمام للتضخم، ومن ثم الشروع في التفكير برفع معدلات الفوائد؟ حتى لو كان ذلك إحدى بوادر الانتعاش الخضراء التي قد تستحيل إلى اللون البنّي بسرعة، يكاد يكون من المؤكد أن الاقتصاد في حاجة إلى تحفيز أكثر لكي يعود إلى العمالة الكاملة عمّا قريب.
ما تقدم هو الاستنتاج الذي لا مناص منه لدى النظر في أحوال سوق العمل اليوم. انها كارثية. ففي تقرير العمالة الأميركي الصادر الجمعة الفائت ارتفعت نسبة الأميركيين، الذين في سن العمل ويعملون في آن واحد، 0،1 نقطة مئوية فحسب، إلى مستوى بائس يبلغ 58.6 في المئة، وهي أرقام لا نظير لها منذ الانكماش الذي ساد في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. ثمة 23 مليون أميركي ممّن يبحثون عن عمل بدوام كامل، ويعجزون عن الحصول على واحد. حجم النقص في الوظائف، أي عدد الوظائف الإضافية المطلوبة لمواكبة عدد الداخلين الجدد إلى سوق العمل، يبلغ 15 مليون وظيفة. الوظائف المتوافرة للرجال لا تزال أقل من مستواها في شباط من العام 2007، وفي غضون ذلك، نمت الكتلة السكانية العاملة باطّراد.
لنفترض أن عملية خلق الوظائف الشهرية ستتواصل بمعدل 225 ألف وظيفة في الشهر. أي أعلى بمئة ألف وظيفة فقط من الرقم المطلوب لتوفير وظائف لمتوسط عدد الداخلين الجدد الى سوق العمل على أساس شهري. واستناداً إلى هذا المعدل، من المتوقع أن تستغرق عملية بلوغ العمالة الكاملة 13 عاماً، أي حتى حلول العام 2025. لكن مكتب الميزانية المستقل في الكونغرس كان أكثر تفاؤلاً، متوقعاً عودة العمالة الكاملة بحلول العام 2018.
ذاك أنه مع نمو القوة العاملة بصورة طبيعية بمعدل 1 في المئة في العام، وفي ضوء نمو الإنتاجية بحوالي 2 إلى 3 في المئة، يبقى المطلوب ارتفاع مطّرد في الناتج يزيد عن 4 في المئة لكي نخفض معدل البطالة. بيد ان أحداً لا يتوقع استدامة النمو بهذه الوتيرة بما يكفي لعودة الاقتصاد الأميركي إلى العمالة الكاملة في وقت قريب.
لكننا قد، لدى انتهاء عملية خفض الديون، نعود إلى معدلات نمو “طبيعية”؛ إلا انّ ما هو مطلوب لخفض مستوى البطالة تأمين فترة طويلة من معدلات نمو فوق المستوى الطبيعي. على كل حال، ثمة عناصر ثلاثة تعود إلى “الطلب الضائع” (ضائع بالمقارنة مع 2007) تجعل من ذلك أمراً بعيد الاحتمال: إذ ذاك بلغ معدل ادخار الأسر صفراً، كنتيجة لادخار الشرائح العليا من الأميركيين، البالغة نسبتهم 20 في المئة، 15 في المئة من مداخيلهم، فيما الـ80 في المئة الذين يشكلون قاعدة الهرم ينفقون بمعدل غير طبيعي يبلغ 110 في المئة من مداخيلهم.
حتى بعد خفض الديون، وغداة أيضاً إصلاح نظامنا المالي بصورة تامة، يجب ألا يعود معدل الادخار إلى مستوياته السابقة. كذا، يجب ألا نتوقع “عودة” المستهلكين الأميركيين، في الوقع يجب أن نقلق من ظهورهم من جديد، نظراً لما يقال عن عقلانيتهم، وعن النظام المالي الذي يسهّل تبذيرهم.
قبل اندلاع الأزمة تمركزت 40 في المئة من الاستثمارات في القطاع العقاري. ونشأت من جراء ذلك فقاعة إسكان تركت فائضاَ في القدرة. وانعكس الضعف المطرد في القطاع العقاري في صورة ارتفاع في عمليات حبس الرهون وفي أسعار منازل منخفضة.
في النهاية، تبدو الولايات المتحدة والحكومات المحلية مقيّدة، إلى درجة كبيرة، بالحاجة إلى إعادة التوازن إلى موازناتها. إنها تعتمد أساساً على الضرائب العقارية، لذا هبطت كل من عائداتها ونفقاتها. ولهذا السبب أيضاً ثمة موظفون حكوميون أقل بمليون مرّة مما كان عليه الحال قبل الأزمة. تبدو الحكومة ككل، مسايرة للتقلبات الدورية، لا العكس.
على أنّ الفقاعة التي انفجرت قبيل الأزمة حجبت مشكلات أساسية في الاقتصاد الأميركي. فالأسر ذات الدخل المنخفض تنفق شطراً أكبر من موازناتها على الاستهلاك، يفوق ما تنفقه الأسر الأغنى. عليه، قد تؤدّي سياسة إعادة التوزيع في اتجاه الأعلى ـ حيث ينال الـ1 في المئة الأعلى أكثر من خمس دخل الأمة ـ إلى طلب كلّي أضعف في غياب الفقاعة.
أكثر من ذلك، لمّا كان الكساد العظيم جزءاً من عملية انتقال الاقتصاد من الزراعة إلى التصنيع، يبدو الركود العظيم الحالي جزءاً من عملية الانتقال من التصنيع الى اقتصاد قائم على قطاع الخدمات. ذاك ان النمو في الإنتاجية، علاوة على تغيّر الميزات المقارنة، جعل من التراجع في العمال الصناعيين أمراً محتوماً. فالأسواق من تلقاء نفسها تعجز عن إدارة تحولات اقتصادية دراماتيكية من هذا القبيل جيداً.
لسوء الحظ، فُعِلَ القليلُ من أجل استهداف المشكلات البنيوية الكامنة. في الواقع، أسهم الانكماش، حيث لا تتماشى معدلات نمو الأجور مع التضخم، في جعل اللامساواة في أميركا أسوأ بكثير مما كانت عليه من نواح عديدة.
اليوم، يواجه الاقتصاد الأميركي ثلاثة مخاطر كبرى. أولاً، انكماش أوروبي أكثر حدة، من جرّاء التقشف المفرط وأزمة اليورو. ثانياً، القناعة بأن الاقتصاد سيتعافى بسرعة من دون الدعم الحكومي. فعلى الرغم من أن لكل تراجع نهاية، إلا ان ذلك لا يفترض به أن يبعث على الارتياح. ثالثاً، القبول بحقيقة أن معدل بطالة يفوق السبعة في المئة لا مناص منه.
إذا تبيّن أن توقعاتي خطأ، فمن الممكن خفض التحفيز. لكن، إذا تبيّن أنها صحيحة، وان ما فعلناه كان قليلاً جداً، فسيتاح لنا أن نعيش لنندم على ذلك.
جوزيف ستيغليتز، حائز جائزة نوبل للاقتصاد
ترجمة: حسن الحاف
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى