صفحات الناس

سويدان جزيرة: عن انهيار الزراعة في دير الزور/ رامي أبو الزين

 

 

كان الفلاحون في قريتي سويدان جزيرة ودَرْنَج، اللتين تتوسطان ريف دير الزور الشرقي على الضفة الشمالية لنهر الفرات (الجزيرة)، ينتظرون بفارغ الصبر شهر نيسان من كل عام، فهو موعد جني محصول الجانرك، الفاكهة ذات الطابع الخاص من حيث المذاق والحضور في أسواق التصريف.

وليس الفلاحون وحدهم من كانوا ينتظرون محصول الجانرك الديري، فثمة آخرون أيضاً، تجارٌ سوريون وآخرون لبنانيون وأردنيون، يتنافسون فيما بينهم للظفر بشحنات الجانرك القادمة من دير الزور، إذ يتفوّقُ الجانرك الديري، وعلى وجه الخصوص من سويدان جزيرة ودرنج، على بقية الأنواع المتوفرة في الأسواق. تتميّزُ الثمرة بكبر حجمها ومذاقها الرائع كما يقول الشاب نصر، وهو ابن إحدى العوائل التي كانت تملك أراضٍ زراعية في سويدان جزيرة، فيها بساتين جانرك.

يقول نصر: «كان يتم تصدير حوالي اثنا عشرة شاحنة محملة بالجانرك من سويدان جزيرة ودرنج إلى دمشق يومياً، خلال الموسم الذي تتراوح مدته من عشرين يوماً إلى شهر». ويضيف: «كان الفلاحون في المنطقة ينتعشون خلال موسم الجانرك، فالوارد المادي من محصوله وحده يكفيهم لعدة شهور من السنة، لأن الجانرك يمتاز بكلفته البسيطة من حيث مصاريف الزراعة كالريّ والسماد الطبيعي مقارنة بأسعاره المرتفعة في الأسواق المحلية والخارجية».

كان ذلك قبل العام 2011، يقول نصر، أي قبل انطلاق الثورة السورية، لكن الأمر تغيّرَ بعد ذاك التاريخ، إذ بدأ المحصول بالتراجع شيئاً فشيئاً إلى أن انتهى بشكل شبه كليّ منذ عام 2014 حتى وقتنا الحالي، بفعل الحرب الطويلة التي خيّمت على محافظة دير الزور.

تأثَّرَ القطاع الزراعي كغيره من القطاعات في دير الزور نتيجة ظروف الحرب التي فرضت نفسها على مفاصل الحياة في المحافظة، وأدّت عوامل عدة إلى تدهور الزراعة في دير الزور، منها معاقبة النظام للفلاحين بتوقيف عمل الجمعيات الفلاحية التي كانت تساعدهم في مزاولة أعمالهم، وانقطاع مياه الري اللازمة لسقاية الأراضي الزراعية، وفقدان المواد الزراعية كالبذار والسماد الطبيعي، وارتفاع أسعارها بشكل كبير إن وجدت، بالإضافة إلى الاستهداف المتكرر من قبل طيران النظام للأراضي الزراعية والفلاحين.

الزراعة في سويدان جزيرة قبل الثورة

هناك أراضٍ زراعية خصبة واسعة في محافظة دير الزور، خاصة على جانبي الفرات، وهي تمتاز بجودة محاصيلها التي يتقدمها القمح، الذي يُعدُّ من المحاصيل الزراعية الاستراتيجية في سوريا، بالإضافة إلى بعض المحاصيل الأخرى كالشعير والقطن والشوندر السكري والذرة الصفراء والخضروات.

استطاع فلاحو دير الزور الحفاظ على جودة محاصيلهم ووفرتها نسبياً خلال السنوات السابقة لعام 2011، وذلك رغم الصعوبات التي كانت تواجه عملهم، فعلى الرغم من تطور العملية الزراعية في بعض المناطق السورية إلى حدّ ما، إلا أن الزراعة في دير الزور بقيت تعتمد بشكل ملحوظ على الأيدي العاملة أكثر من الوسائل الحديثة، وخصوصاً في عمليات الزراعة الموسمية للقمح والشعير والخضروات وجني محاصيلها.

وتمتاز قرية سويدان جزيرة الزراعة بتنوع محاصيلها، التي تشمل أنواع الفاكهة كالمشمش والجانرك وبعض أنواع الخوخ، والخضروات والذرة الصفراء والشوندر والقمح والقطن، والزيتون أيضاً على نطاق أقلّ انتشاراً.

دور الجمعية الفلاحيّة في العمل الزراعي

رغم الفساد الذي كان يسود الجمعيات الفلاحية كغيرها من القطاعات، إلا أن عملها كان يساعد الفلاحين إلى حد كبير في زراعة محاصيلهم ومراقبتها وجنيها، وتُعدُّ فئة الفلاحين في دير الزور من الفئات المتدنية على سلّم أصحاب الدخل في المجتمع السوري، وذلك لأسباب عديدة من بينها سيطرة الحكومة على أسواق تصريف المحاصيل والتحكم بأسعارها، إضافة للديون التي تترتب على الفلاح خلال الموسم للجمعية الفلاحية الموجودة في القرية.

تقوم الجمعية بتأمين مياه الري عن طريق مضخات ضخمة تصب في سواقي كبيرة تتخلل الأراضي الزراعية، ليقوم الفلاحون باستجلاب المياه إلى أراضيهم من خلال مناهل صغيرة من هذه السواقي، وتتكفل الجمعية الفلاحية بالوقود اللازم لتلك المضخات مقابل اشتراكات رمزية من الفلاحين، إضافة إلى ذلك توفر الجمعية الفلاحية المواد الزراعية كالبذار والأسمدة الطبيعية وبعض من أنواع الأدوية الزراعية التي يحتاجها الفلاحون، ويتم تقديمها لهم وتأجيل دفع ثمنها إلى وقت جني الموسم وبيعه، الأمر الذي كان يسمح للفلاحين باستثمار أراضيهم و زراعتها عبر الآلية التي توفرها الجمعية الفلاحية، والتي من دونها كان سيعجز كثيرٌ من الفلاحين عن زراعة أراضيهم نظراً للكلفة العالية التي تتطلبها السقاية، إضافة للمبالغ الكبيرة التي تتطلبها عملية شراء البذار والسماد الطبيعي، والتي تكون عائقاً في وجه معظم الفلاحين.

تأثير النفط على الزراعة في سويدان جزيرة

تحتوي الضفة الشمالية لنهر الفرات من محافظة دير الزور (الجزيرة) على العديد من آبار وحقول النفط والغاز، وقد تضررت معظم الأراضي الزراعية في المنطقة من التلوث البيئي الناتج عن عمل تلك الحقول، ففي عام 2006 ظهر التلوث البيئي بشكل كبير في المنطقة مما دفع العديد من الفلاحين الذين تضررت أراضيهم الزراعية إلى رفع دعوى قضائية ضد حقل العمر النفطي الذي يتوسط الريف الشرقي (جزيرة)، والمتاخم لآلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية.

يقول أحد الفلاحين من قرية سويدان جزيرة: «بعد رفع الدعوى من قبلنا [الفلاحون] جاءت لجنة مشتركة من دمشق وقامت بإجراء فحوصات وتحاليل للتربة والهواء والماء وبعض المحاصيل الزراعية. كانت النتائج في صفّنا، وكسبنا الدعوى، إلّا أنه تم تعويضنا بمبالغ مالية عن عامي 2003-2004 فقط، وتم تناسي الأمر بعد ذلك. عوضوني بمبلغ 450 ألف ليرة سورية عن العامين، لكن خسارتي كانت أكبر بكثير، فقد خسرت بستاناً كبيراً مساحته أكبر من 70 دونماً بسبب تلوث تربته وموت أشجاره».

أثَّرَت حقول النفط والتلوث الصادر عنها بشكل كبير على الأراضي الزراعية في دير الزور وخصوصاً في منطقة (الجزيرة)، وقوبلت هذه المشكلة الكبيرة التي أضرّت بحياة الفلاحين وأراضيهم بخطوات خجولة من قبل المسؤولين في حكومة النظام، دون أن ترقى إلى القدر المطلوب، إذ اقتصرت على تقديم مبلغ مالي صغير لمرة واحدة تكفلت به وزارة النفط، بينما بقيت المشكلة موجودة وتفاقمت فيما بعد، حتى خرجت مساحات واسعة من أراضي المنطقة عن الخدمة.

الزراعة في سويدان جزيرة بعد 2011

نذكر هنا عام 2011 لأنه كان مفصلياً في حياة السوريين على كافة الأصعدة، إذ تأثر القطاع الزراعي كغيره من باقي القطاعات الاقتصادية بالأحداث التي طرأت على الحياة السورية، وربما كان للزراعة في دير الزور النصيب الأكبر من الضرر، لأن الفلاح في دير الزور يعتمد بشكل كبير على ما تقدمه الجمعيات الفلاحية التي أغلقت أبوابها في وجه الفلاح الديري بعد عام 2011 بإيعاز من النظام، كأداة لعقاب للأهالي الذين يعتمدون بشكل كبير على الزراعة.

أدّى توقّفُ الجمعيات الفلاحية عن العمل، إلى جانب الوضع الاقتصادي المتردي للفلاحين بشكل عام، إلى انكماش الزراعة في دير الزور شيئاً فشيئاً، وخروج مساحات شاسعة من الأراضي عن الخدمة، وتغيير أنواع المحاصيل من قبل الفلاحين كمحاولة من التأقلم مع الظروف المفروضة على الفلاحين مما أدى إلى تدهور القطاع الزراعي كلّه.

في قرية سويدان الجزيرة التي بدأت معاناة فلاحيها قبل عام 2011 نتيجة تعرض أراضيهم ومحاصيلهم للتلوث النفطي، زادت المعاناة وتعاظمت المشكلات خلال سنوات الحرب الطوال، إذ عزف كثير من الفلاحين عن زراعة أراضيهم لعدة أسباب يتعلق بعضها بالأمان الذي فُقِدَ نتيجة الاستهداف المتكرر من طائرات النظام للأراضي الزراعية ومقتل فلاحين أثناء عملهم في أراضيهم، وأخرى تتعلق بتنظيم داعش الذي دامت سيطرته على المحافظة قرابة الأربع سنوات، وانعكست ممارساته على الفلاحين وأثرت على محاصيلهم، إذ منعهم التنظيم من شحن محاصيلهم خارج المحافظة بدعوى وصولها إلى (أراضي الكفر) كما كان مسؤولو ديوان الزراعة في التنظيم يقولون، ما أجبر الفلاحين على بيع محاصيلهم في أسواق دير الزور التي لم تكن كافية لتصريف الإنتاج، ما دفعهم إلى تخزينها أو جعلها علفاً للحيوانات.

فوق هذا، كانت حالة عدم الاستقرار، التي كان أبرز فصولها نزوح السكان عن قريتهم طيلة ثلاثة أشهر نتيجة المعارك بين قوات سوريا الديموقراطية وتنظيم الدولة، إضافة إلى انقطاع مياه الري المستمر، الذي أدى إلى جفاف التربة في مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وتحوّلها إلى أرض بور غير صالحة للزراعة.

يقول الشاب نصر: «خلال السنوات الستة الماضية تحولت أراضي كثيرة في سويدان جزيرة إلى أراضٍ بور بسبب ظروف الحرب القاسية، وانقطاع مياه السقاية القادمة من نهر الفرات، إضافة إلى غلاء أسعار البذار والأسمدة. كان لعائلتنا بستانٌ من الزيتون مساحته حوالي 50 دونم (5 هكتارات) في منطقة الحاوي [الحاوي تسمية تُطلَقُ على منطقة موجودة في أغلب قرى وبلدات دير الزور، تتجمع فيها الأراضي الزراعية بعيداً عن المركز السكني لأبناء القرية]، أصبح اليوم عبارة عن أرض قاحلة جرّاء الجفاف والتحطيب الذي تعرضت له أشجاره من قبل أفراد العائلة، الذين استخدموا أخشاب الأشجار التي يبست كحطب للتدفئة في ظل الغلاء الكبير في أسعار المحروقات».

يعيش الفلاحون في قرية سويدان جزيرة ظروفاً قاهرة في ظل استمرار انقطاع مياه الري واستمرار ارتفاع أسعار البذار والسماد الطبيعي، مما دفع شريحة منهم إلى محاولة التأقلم مع الوضع المفروض عبر تغيير أنواع المحاصيل التي اعتادوا على زراعتها، فنجد معظم محصولات القرية اليوم تنقسم بين القمح والخضروات التي تعدُّ غذاء الأسرة الأساسي.

يتابع نصر حديثه فيقول: «حاولَ بعض الفلاحين في سويدان جزيرة تعويض مياه الري اللازمة لسقاية الأراضي بحفر آبار ارتوازية للسقاية، لكن العملية لم تنجح بشكل كبير، لأن مياه البئر الارتوازي أقلّ جودة من مياه نهر الفرات، بسبب احتوائها نسبة عالية من الأملاح والمواد المعدنية غير قابلة للانحلال في التربة، التي تؤدي مع الوقت إلى تشكل طبقة ملحية، الأمر الذي ينعكس بشكل كامل على جودة المحاصيل الزراعية، بالإضافة إلى التكاليف المالية المرتفعة التي يتطلبها حفر البئر الارتوازي، إذ يصل متوسط تكاليف حفره إلى حوالي 150 ألف ليرة سورية، ويرتفع المبلغ وينقص بحسب الأمتار التي يحتاجها للوصول إلى المياه، ويتبعها سعر المضخة اللازمة لسحب المياه، التي يتراوح ثمنها بين 200-500 ألف ليرة سورية، والوقود الذي ترتفع أسعاره في المنطقة، مما ينعكس على نتاج الفلاح الذي يجد نفسه في آخر المطاف قد تكلّفَ مصاريف كبيرة قد لا يسدّها وارد المحصول، إنما قد يظفر الفلاح بتوفير غذاء عائلته من القمح أو الخضار لا أكثر».

لم تغيّر القوة الجديدة التي سيطرت على المنطقة مؤخراً، قوات سوريا الديمقراطية، من أوضاع الفلاحين في ريف دير الزور الشرقي (جزيرة)، حيث اقتصرت التدابير التي اتخذتها على وعود قطعتها المجالس المحلية التابعة لها للفلاحين، تقضي بتحسين أمورهم ومعالجة مشاكلهم العالقة، إلّا أن هذه الوعود بقيت مجرد كلام لم يدخل حيز التنفيذ بعد، ليبقى الفلاح الديري أسير العقبات التي تحدّ من عودة دوران عجلة الزراعة كسابق عهدها على أقلّ تقدير.

موقع الجمهورية

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى