صفحات الثقافة

سياسات التبادل الثقافي: عن ارتجاف بنتر وأورويل في قبريهما/ ثائر ديب

 

 

ليس تفاعل الثقافات والمعارف والآداب في عالمنا بالتفاعل البريء والمتكافئ، شأنه في ذلك شأن التفاعل الاقتصادي الجائر الذي نعرف. ويمكن الكلام على منظومة ثقافية ومعرفية عالمية تُتَبَادَل فيها المنتجات الثقافية ومتعلّقاتها في إطار من عدم التكافؤ اللغوي والثقافي الواضح.

تشير المعطيات الكمّية المتعلقة بالترجمة إلى أنَّ اللغة الإنكليزية هي الأكثر ترجمةً منها والأقلّ ترجمةً إليها. تتلوها الفرنسية. وبمقارنتهما مع لغات العالم الثالث يغدو فارق الترجمة بالاتجاهين جسيماً. وما يعنيه ذلك هو سيطرةٌ طاغية للثقافتين الأنكلوفونية والفرنكوفونية وقَدْرٌ كبير من المال يُجنى بالترجمة منهما، من دون أن يوظَّف منه سوى أقلّ القليل في الترجمة إليهما.

لكن الأمر لا يتوقّف عند الكميّات ودلالاتها المباشرة، بل يمضي إلى أعمق بكثير: حذو الناشرين في العالم حذو نظرائهم الأنكلوسكسون والفرنسيين في توظيف أموالهم في الكتب الأكثر رواجاً (Best Seller) لما تغلّه من أرباح تفوق أرباح الأعمال المحلية؛ احتلال ترجمة الكتب الرائجة المكتوبة بالإنكليزية والفرنسية مكان الترجمة بين اللغات الإقليمية؛ ولادة كتّاب محليين ديدنهم التطلّع إلى ترجمة أعمالهم إلى الإنكليزية والفرنسية سعياً وراء الشهرة والمال ومزيدٍ من الترجمة إلى اللغات الأخرى عبر وسيط الإنكليزية والفرنسية، الأمر الذي غالباً ما يقتضي الخضوع للمُعْتَمَد (Canon) الأدبي والفكري الأنكلوأميركي والفرنسي ومعاييره؛ غالباً ما تكون الكتب الرائجة روايات مثيرة ورومانسيات تشجّع القارئ على التماهي الخيالي بها بدلاً من أن تشجعه على خلق مسافة نقدية تفصله عنها. هكذا تروج لدى الجمهور الغربي، من بين أسباب أخرى، إكزوتيكيات الطاهر بن جلّون وأمين معلوف وف. س. نايبول وسواهم ممن يتناولون الختان والمثلية والحجاب والتواريخ القديمة والبعيدة المثيرة على نحو يمتع ـ ويستجيب لتوقعات – ركّاب القطارات الغربيين، قبل أن تعود لتسلّي جمهور الطبقة الوسطى العربي المقلِّد والمحاكي وأنصاف مثقفيه.

بل إنَّ الترجمة ليست بعد سوى قمة جبل الجليد من مؤسسة كاملة للإدناء والإقصاء و(سوء) الاختيار، تضمّ ناشرين ومموّلين وجوائز ودوريات وبرامج تسويق وإعلام ومراكز ثقافية ومنظمات حكومية وغير حكومية وشللا ثقافية ممتدة (كتّاب ومترجمون ونقّاد محليون ومهاجرون وأجانب) وشخصيات تعمل كعقد اتصال بسبب نفوذٍ ما ماديّ أو معنويّ، بحيث يجري اعتماد هؤلاء مراجع في اختيار وتمرير من يمتثل لمعايير المؤسسة التي تكاد تغيب عنها القيّم الأدبية الحقّة، ومنها قيم التمرد الأدبي الجوهري المتمثّل في ابتداع أشكال جديدة للقول وكيفيات جديدة للكتابة والكشف.

اللافت في السنوات الأخيرة هو قدرة هذه المؤسسة المحافظة على القيام بعملها المعتاد حتى في ظروف ثورية كالتي شهدتها بعض البلدان العربية، وتمكّنها من تناول هذه الثورات – على هذا الصعيد الثقافي ـ تناولاً يطوّع قيمها ويدجّنها ويحرفها باتجاه قراءة المؤسسة المذكورة ودولها وجهاتها الراعية. فكما لفرنسا، مثلاً، سياساتها في الثورة السورية، فإنَّ لمؤسستها الثقافية والأدبية أيضاً سياساتها، ويهمّها أن تصوّر الصراع هناك، بحسب الرؤية الفرنسية الرسمية، بوصفه صراعاً طائفياً بين النظام العلوي والشعب السني (كذا)، ولذلك تُبرِز كَتَبَةً يصورونه على هذا النحو، وتعطي أولوية قصوى للعلويين من هؤلاء نظراً إلى الأثر الأقوى الذي يتركه إظهارهم كاستثناءات لا تني تثبت القاعدة، في تغييبٍ كامل لأيّ قيم أدبية أو معرفية يُقَوَّم في ضوئها العمل الأدبي، بحيث يصبح ممكناً لسياسية مثل شارلوت جوسبان (اليسارية على طريقة برنار هنري ليفي والمقرّبة منه) أن تغدو نوعاً غريباً فذّاً من الناقد الأدبي، فتتحدث عن عمل سوري بإعجاب منقطع النظير، وحين تُسأل إن كانت قرأته تجيب إنه للأسف لم يُترجَم بعد، لكني سمعت أنّ صاحبته مناضلة وكاتبة علوية كبيرة.

يبقى ثمّة تدهوران لافتان جديدان يَسِمَان المؤسسة المذكورة، الأول هو تدهور أدواتها وفاعليها، والثاني هو تدهور موضوعاتها ومفعوليها. ويكفي للدلالة على تدهور الفاعلين أن نتتبع المسيرة من المستشرقين القدماء المتبحّرين حقّا،ً إلى باحثين من أمثال برنارد لويس يُظهرون «عداءً منفلتاً لكلّ نزعة عقلية» كما يقول إدوارد سعيد، إلى تلاميذ لويس من أمثال دانييل بايبيس الذي صرخ سعيد إزاءه: «أشهد أنَّ هذا ليس بالعلم ولا المعرفة ولا الفهم»، إلى المرشدين المحليين (مقيمين ومهاجرين) من أمثال بن جلّون ومعلوف الذين يسوّقون للمؤسسة المذكورة ممتثلين ومنصاعين Conformists يشبهونهم؛ كما يكفي للدلالة على تدهور المفعولين أن نتتبّع الطريق من القدرات الأسلوبية اللافتة لبن جلّون ومعلوف ونايبول، إلى الأمّية الكتابية والفكرية التي تَسِم «نجوم» اليوم ممن تقتصر جعبتهم على موضوعات مثيرة (ختان، حجاب، مثلية شرقية، طوائف) ملفوفة أسلوبياً بغثاثة جاهلة محض.

لكلّ ما سبق، تبدو مهاجمة بعض النقّاد والصحافيين لهؤلاء «النجوم» المُحدَثين مهاجمة سهلة لضحية لا ترقى إلى أن تكون محلّ هجوم، إذ ليسوا أكثر من برغي مسكين مخلوب اللبّ وقابل للاستبدال في آلة ضخمة، في حين أنّ ما ينبغي كشفه هو مؤسسة أدبية تزداد تشابكاً وضراوة وتزداد انحطاطاً في الوقت ذاته. ولعلّ هذا أن يكون الموازي الأدبي لانحطاط السياسيين في الفترة الأخيرة من رجالات دولة إلى مافيوزات ليس برلسكوني وريغان وبوش وترامب ومستبدو العالم الثالث الفاسدون واللصوص سوى أمثلة عليهم.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى