صفحات سورية

سياسات الثورة وسياسيّوها وعلماؤها/ ثائر ديب

 

 

منذ بدايتها، كان ثمّة خطّان في السياسات التي اقترنت بانتفاضة السوريين. ظهر ذلك جليّاً في اعتداء ثوّار مزعومين على المناضل التاريخي عبد العزيز الخير في القاهرة 2012 التي جاءها مع وفد من المعارضة الوطنية الديموقراطية لدفع العملية السياسية التي كانت المظاهرات السلمية لا تزال تسندها برغم بدء السلاح التسيّد على المشهد برمّته.

منذ البداية، كان ثمّة خطّان يمكن التمييز بينهما إلى ما لا نهاية: خطّ مقاومة مدنية سلمية صبور يسعى لتطوير الانتفاضة وانتشالها من عثراتها الطرفية الريفية وحتى الطائفية، وخط آخر متعجّل يعزز هذه العثرات وما هو أشنع منها؛ خطٌّ يعلم أنّ لا ثورة في الخرائب والحروب الطائفية، وخطٌّ مضاد لا يكترث لذلك أو يجهله؛ خطٌّ يقيم تمييزاً نظرياً وسياسياً بين الدولة والنظام بخلاف رواية هذا الأخير التي تطابقهما وخطٌّ لا يني يردّد روايات النظام ذاتها على كلّ صعيد؛ خطٌّ يميّز بين الوطنية و «ممانعة» النظام المحدودة المقرونة إلى الفساد والاستبداد وخطٌّ يخلط بينهما عابثاً بذلك عبثاً خطيراً؛ خطٌّ يتعامل مع القوى الإقليمية والدولية (بما فيها القوى الحليفة للنظام) انطلاقاً من مصلحة البلد والثورة وخطٌّ لا تعني له الثورة سوى تغيير شخوص الحكام وتحالفات البلد من إيران وروسيا إلى السعودية وتركيا وأميركا وربما إسرائيل.

مع اشتداد البطش الوحشي من جهة، وحركة التسلّح والتمويل الخارجيين من جهة أخرى، بدأت حركة نزوح سياسي لافتة من الخطّ الوطني الديموقراطي إلى الخطّ الآخر، تجلّت في مغادرة كثير من أعضاء «هيئة التنسيق» باتجاه «المجلس الوطني» و «الائتلاف». كان الخطاب السائد آنذاك يبشّر بسقوط النظام الوشيك بأيدي «الجيش الحر» أو «الضربة الخارجية». وضاع في الضجّة كلّ تحليل عقلاني لبنية المجتمع السوري وبنية النظام وتوازن القوى الداخلي والدولي. وبات تفاوت التطوّر في مناطق الانتفاضة سبباً للتخوين لا لبذل مزيد من الجهد. ولم يتبيّن كثيرون ما يعنيه شقّ الجيش والعلم، ولا تزايد حضور «النصرة» وشبيهاتها. وساد لدى كثيرين وهمٌ مكين أنّ السلطة قاب قوسين من أيديهم، ما عنى رفض أيّ عملية سياسية في ذلك الحين وعدم الاكتراث بطوفان دم الضحايا.

والحال، إنّه إذا ما كانت طبيعة كلّ ثورة تتحدد بطبيعة الوضع القائم في المجتمع ووجهة تغيره من جهة، وطبيعة الفئات القائدة للثورة من جهة أخرى، يمكن القول إنّ الوضع السوري الاستبدادي الفاسد الجدير بمئات الثورات لا بواحدة فحسب قد تهيّأت للتسيّد على انتفاضة شعبه، ولأسباب كثيرة – على رأسها بطش النظام وتدخلات الخارج فئات لا علاقة لها غالباً سوى بالثورات المضادة: حركات إسلاموية وليبرالية لا أطروحة جديدة لديها تضفيها على المجتمع اقتصادياً أو اجتماعياً أو سياسياً؛ مهاجرون منذ عقود لا تكاد تربطهم بالبلد أيّ رابطة، هامشيون لا يكادون يرتبطون بأيّ فئات اجتماعية تبدي قدراً من الهوية والثبات ويبدون قدراً كبيراً من المغامرة وعدم المسؤولية، وذلك في الوقت الذي أطاح به القمع ثم التسلّح والحرب بأيّ احتمالات أخرى.

ولعلّ الطامة ازدادت جاماً (هل يوجد مثل هذا التعبير؟!) بأنّه لم يصدر عن كثير من أنصار الثورة السوريين والعرب المختصين، لاسيّما السوسيولوجيون والسوسيولوجيات، أي عون على مثل هذه المستويات من التبيّن بدل الاكتفاء بالتطبيل والتزمير الشعبويين اللذين يمكن الحصول عليهما من أيّ عابر سبيل أمّيّ.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى