صفحات العالم

سياسات قاتلة


حازم صاغيّة

لا يستخفّ العاقل والعادل بخوف الأقليّات. لكنّ ما لا ينبغي الاستخفاف به أيضاً إخافة الأقليّات ودفعها، انطلاقاً من هذه الإخافة، إلى… الانتحار.

ما أقصده تحديداً ثلاث أقليّات في المشرق العربيّ: الشيعة والمسيحيّين والعلويّين. فهؤلاء صدروا عن تواريخ من الظلم والاضطهاد، لكنّهم عضّوا على جراحهم ورفعوا رايات التنوّر والحداثة كما راهنوا، في مراحل مختلفة، على التعليم والأحزاب والاصلاحات السياسيّة والاجتماعيّة. وما راهنوا عليه لم يتسنّ له الإقلاع، وكان من أسباب ذلك أنّ الأكثريّة السنّيّة لم تتجاوب مع رهانهم، منشدّة إلى خيارات محافظة وبطيئة، وأحياناً رجعيّة. وكانت المسائل المسمّاة قوميّة رافعة ملحوظة في عمليّة اجتناب الأجندة التقدّميّة والحداثيّة.

لكنّ الأقليّات ما لبثت أن استخدمت الانقلابات العسكريّة في سوريّا، ثمّ بنت نظاماً سياسيًّا فئويًّا وطائفيًّا، فضلاً عن كونه استبداديًّا. وفي لبنان، ومن خلال الحزب السوريّ القوميّ الذي كان مصغّراً عن تحالف الأقليّات، حاولت الانقلاب العسكريّ مرّتين، وأفشلها التركيب الطائفيّ للمجتمع اللبنانيّ. ولاحقاً، غدت التيّارات الأقليّة الأكثر تطرّفاً هي التي تكسب: يصحّ هذا في الراديكاليّة المسيحيّة الممتدّة من بشير الجميّل إلى ميشال عون، كما في الراديكاليّة الشيعيّة ممثّلةً خصوصاً بحزب الله.

وهذا جميعاً، من دون أن يقلّل من مسؤوليّة الأكثريّة، ينبغي ألاّ يقلّل أيضاً من مسؤوليّة الأقليّات، خصوصاً أنّها هي التي تمسك بالسلطة في سوريّا. كما أنّها، باستثناء فترة قصيرة تلت 2005، الأقرب إلى منصّة السلطة في لبنان. وحتّى في تلك القصيرة، جرى استدعاء حرب هيوليّة مع إسرائيل من أجل ألاّ تتغيّر المعادلة.

وهذا كثير. فهو، أوّلاً، يخالف الردود الأولى للأقليّات التي قامت على التنوّر والتنوير والتعليم والأحزاب، كما كانت حال المسيحيّين ما بين أواخر القرن التاسع عشر والأربعينات، وحال الشيعة منذ الخمسينات حتّى اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة أواسط السبعينات. لكنّه، ثانياً، يلعب على أرض ستكون الأقليّات الأضعف فيها، حتّى لو “تحالفت”. فهي إذا ما شاءت أن تطرح المسألة على هذا النحو “الواقعيّ” الأحاديّ الجانب لن تستطيع أن تكسب، إلاّ أنّها تستطيع فحسب أن تنتحر!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى