صفحات سوريةناصر الرباط

سياسة الولايات المتحدة تجاه سورية بين الأمس واليوم


ناصر الرباط *

ما أشبه اليوم بالبارحة أو ما أبعده عنه؟

جاء الرئيس الأميركي وودرو ويلسون إلى مؤتمر الصلح في فرساي في فرنسا عام ١٩١٩ بعد الحرب الكبرى، تسبقه سمعته المثالية التي أسست لها مبادئه الأربعة عشر والتي حاول فيها رسم خريطة العالم بعد الحرب على أسس ليبرالية تضمنت حرية تقرير المصير لكل الشعوب. وقد تفاجأ ويلسون بالمخططات الأوروبية لاقتسام المناطق غير التركية من الدولة العثمانية (بشكل خاص سورية والعراق) وحاول مقاومتها. فاقترح تشكيل لجنة تقصي حقائق تذهب إلى الولايات العثمانية المحررة لتستطلع أراء السكان في ما يريدونه من مستقبل حكمهم. وبعد مماطلة مديدة من بريطانيا وفرنسا، اللتين كانتا قد اتفقتا على اقتسام الولايات العربية قبل المؤتمر، شكل ويلسون لجنة أميركية، عرفت بلجنة كينغ – كراين (King-Crane Commission) كانت مهمتها استطلاع آراء السكان وتقديم تقرير للمؤتمر. قضت اللجنة ستة أسابيع بين حزيران (يونيو) وتموز (يوليو) ١٩١٩ جالت فيها في مختلف المدن السورية والفلسطينية، وقدمت تقريراً خلصت فيه إلى أن الأكثرية المطلقة تطالب بدولة سورية مستقلة استقلالاً كاملاً، وترفض فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. أعلنت اللجنة أيضاً أن السكان الذين قابلتهم، وجلهم طبعاً من الأعيان، فضلوا في حال كان عليهم القبول بقوة منتدبة أن تكون هذه السلطة أميركية، بما أن الرأي السائد كان أن الولايات المتحدة دولة غير-استعمارية وتحترم الحريات على عكس فرنسا وبريطانيا. ولكن التقرير جاء متأخراً لكي يغير مقررات التقسيم والانتداب التي اعتمدها مؤتمر الصلح والمؤتمرات التي تلته. واحتلت فرنسا سورية وقسمتها لدويلات صغيرة، وأسست دولة لبنان الكبير، وسلخت لواء الاسكندرون وأعطته لتركيا. أما تقرير كينغ – كراين فقبع في الأدراج عدة سنوات ولم ينشر إلا عام ١٩٢٢ بعد أن مرر مجلسا النواب والشيوخ قراراً يحبذ إنشاء وطن قومي لليهود على أساس وعد بلفور، على رغم أن التقرير عارض قيام هذه الدولة على أسس أخلاقية.

عام ١٩٤٧ كانت الدولة السورية الحديثة الولادة تنعم بنظام برلماني مقبول وإن كانت السيطرة فيه لطبقة ملاك الأراضي. لم تر الولايات المتحدة في ذلك النظام حليفاً مضموناً في صراعها الكوني مع الاتحاد السوفياتي. وكانت كذلك متوجسة من النزعة القومية في سورية التي قاومت نشوء دولة يهودية في فلسطين. وعليه تشكلت مجموعة من مقرري السياسة الأميركيين مكونة من فئتين، صقور الواقعية السياسية وحمائم التغيير الديموقراطي، كانت مهمتها العمل على تغيير نظام الحكم في سورية لتحقيق هدفين: تمثيل أوسع للطبقات المتوسطة والفقيرة وانتظام أوضح في سلك الدول المناهضة للشيوعية.

جربت الولايات المتحدة الطريق الديموقراطي عبر تنظيم حملة انتخابية واسعة في الانتخابات السورية عام ١٩٤٧ مولتها وزارة الخارجية وشركات النفط، ولكنها لم تحسم أمرها فيمن ستدعمه من المرشحين مما أدى إلى فشل المشروع. قرر الأميركيون بعد فشلهم أن الحل الأمثل للتأثير في السياسة السورية ولحقن الدولة بجرعة أكبر من الديموقراطية يكمن في دعم انقلاب عسكري. وهو ما فعلوه. وجاء حسني الزعيم إلى الحكم بعد انقلاب آذار (مارس) ١٩٤٩. ولكنه سرعان ما قتل في انقلاب عليه بعد بضعة أشهر. وكرت سبحة الانقلابات العسكرية التي مولتها مختلف أجهزة الاستخبارات الأجنبية والعربية والتي جلبت إلى الحكم سلسلة من الزعماء العسكريين واحداً تلو الآخر، تجاوز كل منهم سابقه في تفننه بدفع أيديولوجية منقوصة من قومية سورية إلى قومية عربية إلى اشتراكية متشددة ثم اشتراكية/رأسمالية. كان حافظ الأسد آخر هؤلاء الجنرالات الذي استلم الحكم بعد «حركته التصحيحية» عام ١٩٧٠، والذي تمكن بفضل دهائه السياسي والأمني والطائفي من البقاء رئيساً لثلاثين سنة معتمداً في ذلك على قمع شديد لأي بادرة معارضة وتعظيم سافر للذات واعتماد أساسي على ولاء قبلي طائفي وأسري.

عام ٢٠١١ بدأت الثورة السورية ضد النظام الأسدي القمعي والطائفي الذي أصبح الآن نظام متوارثاً. جابه النظام الحراك السلمي بالقتل والاعتقال والتخوين، وتدهورت الأمور إلى صراع مرير بين ثائرين مسلحين تسليحاً خفيفاً ونظام لا يتورع عن استخدام أكثر الأسلحة تدميراً في قصف المناطق السكانية للقضاء على الثوار. دانت الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية عنف النظام وطالبت بتنحي الأسد الابن. ولكنها امتنعت عن اتخاذ أي خطوات عملية لتعجيل سقوط النظام، وعللت ذلك بشتى الأعذار.

أما الآن وقد انتخب الرئيس باراك أوباما لولاية ثانية، فالبعض يتوقع تغييراً جذرياً في السياسة الأميركية تجاه الثورة السورية مثل دعمها بالسلاح أو بالحظر الجوي، ولو أن إمكانية التدخل العسكري المباشر ما زالت بعيدة. أما البعض الآخر فهو ما زال يرى بأن السياسة التي انتهجها أوباما ستستمر للأسباب نفسها مثل التوازن الجيوسياسي، أو العامل الإسرائيلي المسيطر على السياسة الأميركية، أو خطر أسلمة الثورة والخوف من وقوع الأسلحة في الأيدي الخطأ. وتبقى غالبية المعلقين على توجسهم من الولايات المتحدة، ولو أنهم يقرون أيضاً بأن الحل الوحيد للاستعصاء في سورية يكمن في تدخل أميركي هناك، أو على رأي المثل الشامي «عيني فيه وتفو عليه».

اليوم، أصبح للمعارضة السورية ائتلاف موحد يمثل طيفاً واسعاً من الشعب السوري. وهو قد بدأ بمحاولة الحصول على اعتراف الجامعة العربية المترددة كعادتها، ولو أني أظن أن عينه على البيت الأبيض فعلاً. وهو في ذلك محق. ومع أني لست في موقع يسمح لي بأن أخمن أي نهج ستنتهجه الولايات المتحدة في تعاملها مع سورية ولكني آمل أن يقرأ ائتلافنا الموحد تاريخ العلاقات مع الولايات المتحدة ويستقرئ منه سبلاً أفضل للتعامل مع هذه الدولة العظمى التي تنازع سياستها العالمية منذ فترة طويلة تياران: الأول طوبوي يرى أن الحرية والديموقراطية على الطريقة الأميركية يؤمنان أفضل سبيل لازدهار الشعوب، والثاني توسعي يرى أن مصالح الولايات المتحدة الإمبريالية تعلو على أي اعتبار آخر.

* عضو في الحركة السورية المدنية

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى