صفحات سوريةماهر مسعود

سياسة «شوارعية» وعالم مخملي/ ماهر مسعود

 

يُشار في ثقافتنا الشعبية إلى السلوك الأرعن واللغة النابية على أنهما سلوك ولغة «شوارعية». والمعروف أن مصطلح «أولاد الشوارع» على رغم أصله الطبقي الذي يحيل إلى أناس معدمين اقتصادياً، فإنه يتجاوز هذا المُحدِد الاقتصادي إلى إحالات أخلاقية وتربوية وتعليمية سيئة، وأخرى نفسية واجتماعية سيكوباتية، ومنفلتة من عقالها.

تحولت السياسة الرسمية للسلطة السورية منذ بداية الثورة بشكل خاص إلى سياسة «شوارعية» محضة. فمع الحاجة المتزايدة لممارسة العنف والعدوان، فقدت السلطة تمسكها بتلك القشرة الديبلوماسية التي تلطّت خلفها لأربعة عقود مضت، وباتت سلطة الدولة غير خاضعة لأي منطق مؤسسي، وأي منظومة مضبوطة بمعايير كونية وإنسانية، بل أصبح اعتماد البلطجة والتشبيح هو المعيار الأساسي لسلوك السلطة وأتباعها على الصعيد المحلي و «الدولي»، بحيث لا ضوابط قانونية أو حضارية أو أخلاقية تظهر أمام حضور ميزان القوى الصلب، ولا تفاضل في القيم البشرية المتنوعة، أمام حضور القيمة المطلقة للقوة العارية والسلوك العدواني.

على طول خط الثورة السورية لم تكن التحليلات السياسية والرؤى الثقافية بمختلف تنوعاتها صائبة أو مصيبة في توقعاتها، بل إن الفشل التحليلي أصاب العديد من رؤساء الدول، ناهيك عن مستشاريهم وموجهي سياساتهم، ذلك أن جميع تلك التحليلات كانت تنطلق من مبادئ عقلانية ومحرزات حضارية مرتبطة بالعيش في القرن الحادي والعشرين، ومرتبطة بنسق الإنسان الحديث وعلوم السياسة المعاصرة، وكذلك بمنطق العولمة الذي جعل 7 مليار إنسان يعيشون كمن يعيش في قرية صغيرة. ولكن كيف لذلك أن ينطبق على سياسة شوارعية؟، سياسة القوة المحض والمعالجة الأمنية العسكرية الصرفة التي اعتمدها نظام البعث؟، تلك السياسة التي جعلت من معركتها مع الشعب معركة وجود ومصير شاملة، بحيث لم تدّخر وسيلة أو سلاح، من أي نوع كان، إلا واستخدمته في تلك المعركة، ولم تترك عدواً أو حليفاً إلا واستقدمته لمواجهة العدو المطلق ممثلاً بالشعب السوري ذاته، ناهيك عن أنها لم تترك عتبة من عتبات النفس «الأمارة بالسوء» إلا وحرضتها لتخرج أسوأ ما لديها من عنف وعدوان.

لماذا يمكن لإنسان عادي يتناول جرعات الخوف مع الخبز اليومي، أو لشبيح لم يعرف في حياته سوى الارتزاق والبلطجة أن يكون مصيباً في «قراءته السياسية» أكثر من جميع المحللين والسياسيين والمثقفين في العالم وليس فقط في سورية؟. ذلك ببساطة لأن الأخيرين افترضوا- مخطئين على ما يبدو- عبر قراءة التاريخ والواقع والسياسة حول العالم أننا نعيش في العالم وليس خارجه، وأن فرضية أن يفنى الشعب ليبقى الملك حاكماً للخراب هي من حكايا المخيلة في العصر الحجري، لا من صروف الواقع في عصر العولمة.

لم يتفق الساسة والخبراء والمتابعون على شيء منذ بداية الثورة السورية مثل اتفاقهم على انفصال منظومة الرئاسة والسلطة في سورية عن الواقع، لكن منظومة الرئاسة التي أنكرت الواقع، استطاعت عبر سنوات ثلاث من الجنون المحض أن تصنع واقع الجنون، وتجعل من الواقع موازياً للخيال المجنون، وبدل أن يتكسر جنونها وهذيانها وأوهامها على صخرة الواقع، استطاعت بامتلاكها الأسلحة والداعمين والتغطية الدولية أن تكسِّر الواقع على صخرة الجنون، وبعد أن كان التفكير بقيام سلطة بضرب شعبها بأسلحة الدمار الشامل نوع من الخيال والفانتازيا ضمن معايير الحضارة الراهنة، بات الواقع ذاته خيالياً بطريقة يصعب على الإنسان المعاصر تصديقها، وأصبح القول إن سورية بمجملها منفصلة عن الواقع قول واقعي، بل هي منفصلة عن المعاش في جميع دول العالم، فالواقع السوري لمن يعيشه يبدو كجزيرة في المريخ قياساً بما يدور على كوكب الأرض، وإنكار الحقيقة وعدم تصديقها الذي أصاب النظام السوري، نتيجة قيام شعب مروض لأربعين عاماً بثورة شعبية عارمة، انتقل إلى السوريين الذين ما زالوا قيد إنكار الحقيقة، وعدم القدرة على التصديق، بأن العالم بمجمله يتفرج على المقتلة التي تصيبهم، من دون أن يحرك ساكناً أو يفرض على قاتلهم التوقف.

إن الربيع السوري تحول إلى فصل الجحيم، ولكن ذلك لم يكن لأن الشعب السوري اختار الهروب من الحرية فصنع الطاغية كما حدث بألمانيا الهتلرية ذات يوم، ولا لأن إرادة السوريين كانت معاكسة لسير التاريخ البشري في نهر الحياة، بل لأن السوريين اختاروا الحرية في زمن محكوم بانحطاط غير مسبوق لصناع القرار في العالم، ومحكوم «بسياسة شوارعية» لا سابق لقسوتها المجردة وخيالها المجرم، ثم إجرامها الخيالي في التاريخ السوري والإنساني، الممتد لنحو اثني عشر ألف عام، لكن الظن بأن هذا العالم المخملي سيبقى آمناً على رغم إنكاره البلاء السوري هو ما نراه ترفاً في الخيال.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى