رستم محمودصفحات الثقافة

سيرة مدن القرن

 

رستم محمود

مثلاً، مع نشأتها الأولى، في عشرينات القرن المنصرم، كانت مدينة القامشلي، نقطة جذب استثنائية لكل الحساسيات المجتمعية العثمانية. انحدر إليها يهود مدينة نصيبين التاريخية، لاتصالها المديد مع البادية، حيث كانت تجارتهم التقليدية بالفضة والصوف، ولقربها من سكة قطار الشرق السريع، الذي يربطهم بالموصل وحلب. ولوجود الحامية الفرنسية فيها بذلك الزمان، استقر فيها أرمن كثيرون، كانوا قد هربوا وهرعوا للبادية، جنوب المدينة، إثر الفرمانات الفظيعة التي خُطت بحقهم، قبل عقد فحسب. لسبب قريب من ذلك، كان سريان جبال طوروس، أيضاً، قد هُجّروا إليها، ناقلين معهم علوم أمصارهم الشتى. عرب البادية وأكراد السهوب، المحيطة بالمدينة، كانوا قد تدفّقوا إليها تبعاً، عاماً بعد آخر، ساعين لتعليم أبنائهم، ومجرّبين حظهم بغير الزراعة والرعي، التي أكلت من أكفّهم وأكتافهم.

مع بداية النصف الثاني من القرن المنصرم، كانت القامشلي، مدينة ملوّنة، بالضبط كما سمّى المفكر حليم بركات سيرته في بيروت الخمسينات من القرن المنصرم. كانت القامشلي تمتد على تنوع لغوي وأثني وديني واجتماعي وسياسي وإيديولوجي وعمراني، حيث طاقة التعايش وعقود التكامل، تغالب فيها، أي انزياح آخر. بالضبط كما كان قد حدث في مدينة الإسكندرية مثلاً، قبل عقود وقرون، حيث خصوصية الجغرافيا، وظرف تاريخي مناسب، أسسا معاً لذلك التنوع. كانت الإسكندرية، منذ القدم، مدينة تجمع بين اليونان والبدو والأقباط والأرمن والشوام والأتراك والألبان والليبيين والسودانيين… إلخ.

بين دفتي سيرتي، مدينة القامشلي الأكثر حداثة، والإسكندرية الأكثر تقليدية، كانت كل سِيَر المدن العربية في القرن العشرين، من الولادة وحتى الشيخوخة. فلتحوّل عميق في عالم السياسية، حيث لأول مرة تصبح مدننا حواضر للـ”الدولة الحديثة”. وتحوّل آخر في الاقتصاد، انتقال تاريخي أولي من حصرية الاقتصاد الزراعي، للأشكال الحديثة الأخرى من الاقتصاد؛ ولتحوّل ثقافي حداثوي أكثر عمقاً، في التعليم والصحة والعمران والاتصالات… إلخ. لتلك التحولات كلها، كانت الحساسيات الريفية المختلفة قد انحدرت للمدن، وصنعت تلك العقود من التكامل والتعايش.

كل تلك المدن، من القامشلي إلى الإسكندرية، مروراً بمئات الأمثلة الأخرى، كلها، باختلاف حداثة تكوينها وحجهما ودورها، انحدر “انحطاط” حيويتها وحساسيتها الخاصة، مع بداية الستينات من القرن المنصرم، حيث سيطرت النزعة “القومية العربية”، ثم تحولت السيطرة القومية لهيمنة رمزية تامة، في مؤسسات الدولة وحقول التربية والقضاء والإعلام والفضاء العام. في السبعينات، قامت الأجهزة الأمنية مقام الهيمنة القومية. في الثمانينات والتسعينات، بقيت سيطرة الأجهزة الأمنية، بينما استحوذت التيارات الدينية على مقام الهيمنة. في العقد الأول من القرن الجديد، ترافق العنف الديني مع الوحشية الاقتصادية الاحتكارية لنخب الحكم، شيء كانت العشوائيات العربية أبلغ تعبيراته. المهمّ، لنصف قرن كامل، جرت سيرة المدن العربية، بالتباين التام لسيرة تكونها في النصف الأول من القرن. كبتت ألوان الحساسيات كلها، وتحولت نحو فضاء من التكاذب المتبادل، ومن ثم إلى شكل مشوّه للباطنية الطائفيّة والإثنيّة والمناطقيّة، بين أطراف المدينة. حيث “التخاوف” المتبادل و”مخيّلات الرهبة” واقتصاد الجماعات، ومؤسّسات الهويات، التي تمتدّ من التعليم للصحة، ومن الإعلام للأمن لدور العبادة، بحيث كان جوهرها يكمن في تمركز الجماعات المختلفة في أحياء وأطراف غير متخالطة من المدن.

ربما، ربما هي المدن التي يمكن اعتبارها معيار وامتحان “الربيع العربي”، فهي التي تأسست بشكلها وشرطها الأول، كانعكاس ونتيجة أولى لانخراط دولنا الحديثة في العصر ولغته، مع بداية القرن المنصرم، هي نفسها من نكصت وهرمت وامتلأت بالتلوّث والعشوائيات، مع تحوّلات الاستبداد في وقت لاحق. شرط الربيع هو حفاظه على حساسيات المدن العربية، حتى أكثرها ضعفاً، وبلغة وشروط تعاقدية أعمق وأحدث، تكون الديمقراطية فيها نظاماً لا عملية، وتكون الدولة فيها حامية لا حصصاً متهيّئة لتؤكل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى