الحرية لرزان زيتونة، الحرية لمخطوفي دوماصفحات الناسياسين الحاج صالح

سيرٌ لسوريا المنسيّة/ ياسين الحاج صالح

 

 

 

اقتضى الأمر زمناً مساوياً تقريباً للزمن الذي قضيته في السجن حتى أنجز هذا الكتاب ونشر بالعربية 1 ، 16 عاماً. يقاوم المرء الكتابة عن محن الحياة ويحاول نسيان آلامها، أو يتنازعه دافع النسيان هذا مع دافع تسجيل تجربة إنسانية قد يجد فيها قارئ ما يساعده في مواجهة تجارب مماثلة. في مطلع خريف عام 2014 تلقيتُ رسالة من شابة حلبية قضت أشهراً معتقلة في مقر أحد الأجهزة الأمنية. قالت إن الكتاب الذي قرأته قبل أيام قليلة من اعتقالها ساعدها في تحمل أوضاع الاعتقال، دون تذمر. في زحام الزنزانة، حُشرت في موقع تتعرض فيه للدوس بأقدام المعتقلات الأخريات، وفكرتْ أن غيرها، ومنهم أنا، سبقوها إلى وضع مقارب، فتعاملت مع محنتها باستهانة واستخفاف. بقي في ذاكرتها أن ألمها حلقة من سلسلة طويلة من آلام ومآس، تطلع أصحابها نحو أوضاع أكثر عدالة وإنسانية. وشعرت أنها ليست ذرة معزولة منفصلة عن عالم من الصراع والأمل، على ما يحاول النظام السجان غرسه في نفوس ضحاياه.

قارئ هذا الكتاب سيرى أن السجن كان تجربة تغير وانعتاق لي، طفولة ثانية لا يتيسر مثلها لكثيرين. عبر الألم والصراع مع الألم، والتعلم من الصراع ومن الكتب، يتحرر المرء من سجون داخلية، وتتسع مساحة الحرية في داخله. هذه تجربة ثمينة لا تتاح في العمر مرتين. وأود أن أقر هنا أنه حين تفجرت الثورة السورية التي صدر الكتاب بعد عام من انطلاقها انخرطت فيها من أجل التحول الشخصي، وليس من أجل التحول العام وحده. انتظمت تجربتي مع الثورة بيسر وسرعة في سياق تشكل تجربة معارضة النظام ثم الاعتقال أيام كنت طالباً جامعياً سابقته الكبرى وحلقته الأولى. وبالانخراط في هذه التجربة الثانية أردت أن أحصل لنفسي على بداية أخرى وخبرات مغايرة وذاكرة جديدة. ليس طفولة ثانية، وأنا في الخمسين، بل ربما شباباً ثانياً. كنت أقيس على تجربة السجن وأثرها.

وبينما لا يزال مبكراً، ونحن في قلب الصراع الممزِّق لا نزال، تقديم حصيلة لهذه التجربة الجديدة، فإن جردة أولية للمسار الشخصي خلال 3 سنوات ونصف ممكنة، وربما مفيدة.

ضرورية أيضاً.

ما يجلعها كذلك هو أن الصراع الكبير هذا كان إطاراً لتجارب تشابه السجن من حيث الندرة والخطر من جهة، ومن حيث الفاعلية التغييرية المحتملة من جهة ثانية، فوق كونها أيضا وجه رئيس من أوجه المسار والمصير السوري العام. هوية السوريين هي مجموع تجاربهم المهولة مثلما هويتي هي مجموع تجاربي. سأحاول في الجرد اللاحق المزج بين رواية التجربة الشخصية ومقاربة التجربة العامة، في مسعى لتصور التحطيم الرهيب الذي تعرضنا له أفراداً ومجتمعاً.

التواري

أولى التجارب هي التواري.

قضيت عامين متخفياً عن أعين أجهزة النظام في دمشق، حيث كنت أعيش منذ أواخر عام 2000. لم أفعل ذلك لأني كنت أقوم بدور سياسي مهم. لم أكن. تخفيت لأني أردت أن أقول ما أؤمن به وأنا داخل البلد، دون التعرض لخطر الاعتقال. كان التواري حلاً لمشكلة مزدوجة: الاعتقال والسجن الذين أعرفهما بما يكفي لبذل كل جهد لتفاديهما، ثم الخروج من البلد الذي لم تكن لي فيه تجربة شخصية، لكن حاولت تجنبه طوال الوقت.

على كل حال لم يكن لدي جواز سفر.

كان لدي استيهام/ حلم في شهور الثورة الأولى: أن يسقط النظام بعد حين، فأحصل على جواز سفر، وأخرج من البلد. كنت أقول لأصدقائي مازحا أني أريد إسقاط النظام من أجل الحصول على جواز سفر! ولم أكن أريد الخروج من البلد أثناء الصراع، بل بعد انتهاء جولته الجارية بتحقق هدفها المأمول: إسقاط النظام.

كان ظاهراً منذ البداية تقريبا أننا حيال حدث كبير، شيء لا يحدث مثله كثيراً، وكان خياري أن أكون قريباً من أرض الحدث، أشهد على ما يجري، وربما أشارك فيه بصورة ما. مشاركتي الميدانية كانت محدودة، وتمثّل دوري الأساسي بمقالة أسبوعية واحدة على الأقل، وبمواد أخرى تنشر في صحف أو مجلات أو مواقع إنترنت. ويبدو أنها كانت تنال تقديراً، يصدر في جانب منه عن كوني أعيش داخل البلد.

حين تتساوى الأمور الأخرى، كان عموم السوريين يثقون بالباقين داخل البلد.

خلال عامين أقمت في خمس بيوت في دمشق. استفدت من دعم ومساندة أصدقاء في أمور كثيرة، منها أني كنت ضيفاً، وليس مستأجراً، في كل البيوت التي أقمت فيها، ومنها تسهيلات للمعيشة والحركة، ومنها رفقة طيبة مع صديقات وأصدقاء كانوا مصدر معلومات وعون متنوع لي.

كنت أقول لأصدقائي مازحا أني أريد إسقاط النظام من أجل الحصول على جواز سفر! ولم أكن أريد الخروج من البلد أثناء الصراع، بل بعد انتهاء جولته الجارية بتحقق هدفها المأمول: إسقاط النظام.

عرض سوريو الثورة في ذلك الوقت روحاً من الغيرية والإيثار والتضامن لم تكن شائعة بهذه الصورة من قبل، ولعلها تراجعت اليوم مع تطاول أمد الصراع وقتامة الآفاق أمام البلد. كان المناخ العام خلال عامين مناخ ثقة وتكافل وأمل.

وخلال العامين، كانت سميرة، زوجتي، الشريكة التي لا مثيل لها. شريكة في القضية، مساهمة في الاحتجاجات الباكرة، وفي التواصل مع محيطنا وأصدقائنا في كل وقت، وسنداً في ما كانت تظنه دوراً عاماً مفيداً لي في هذه القضية. كانت تراقب نفسها وهي تقصد مكاني المحجوب كيلا تكون دليل أعدائنا المشتركين إلى مكمني. كانت سجينة سياسية سابقة هي نفسها، قضت 4 سنوات في السجن بين 1987 و1991، ولديها من التجربة والتكرس ما يساعد على تحمل أوضاع قاسية، وبروح متفائلة ومرحة دوماً.

سميرة كانت تأتي بالطعام، وما أحتاج من كتب، وتقيم معي جزئياً، في الفترة الأولى، قبل أن تقيم معي أكثر الوقت في مراحل لاحقة.

لم أتعرض لخطر يذكر خلال عامين من التواري في دمشق، لكن كنت أشعر باختناق متزايد، ولم يعد بقائي في دمشق محققاً للغرض منه، البقاء على أرض التجربة، والشهادة على ما يجري. كانت الثورة قد طالت، وتحولت إلى حرب مريرة بتأثير حرب النظام عليها منذ البداية، وضعف القيادات الشرعية المعارضة، وتعقيد وضع سورية الجيوسياسي. وإذ ربطت مصيري بمصير الثورة منذ البداية، كان لا بد أن أغيّر وضعي من أجل القدرة على الاستمرار، أو حتى القدرة على الفهم. الإقامة في دمشق التي تقطعها الحواجز وتغدو الحركة فيها أصعب وأصعب، ويتعرض أي بيت فيها للمداهمة في أي وقت، لم يعد مفيداً لأي غرض.

الانفصال

كانت المؤشرات المقلقة تتزايد. توقفت موجة طرد قوات النظام من مواقع كثيرة في البلد، وتزامن خروجي من دمشق إلى الغوطة الشرقية في نيسان 2013 مع موجة معاكسة، إذ تمكن النظام وحليفه حزب الله اللبناني من انتزاع بلدة القصير على الحدود السورية اللبنانية من مقاتلي المعارضة. قبلها بقليل كان النظام تمكن من استعادة العتيبة، البلدة التي تتحكم بالطريق الذي يربط غوطة دمشق الشرقية بشمال البلد. هذا جعل الغوطة محاصرة واضطرني إلى البقاء في المنطقة التي قصدتها في 3 نيسان كمحطة أولى باتجاه الشمال حتى 10 تموز 2013.

بعد نحو 100 يوم من الإقامة في الغوطة الشرقية، في دوما أولاً ثم في المليحة، ثم في دوما مجدداً، أمكن لي الخروج منها ضمن قافلة صغيرة، تحركت سراً عند منتصف الليل. كنت الأكبر سنا في المجموعة، وكانت الرحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر، مشينا في مستهلها نحو 20 كيلومتراً على درب سبق أن وقع سالكون له في كمين وقتل أكثرهم.

التقارير الأمنية أداة فعالة من أدوات الرقابة على السكان منذ بداية الحكم البعثي، ارتقت إلى مستوى أداة تفخيخ المجتمع وزرع الريبة والخوف بين الناس والتحكم بهم في زمن حافظ الأسد.

استطالت الرحلة 19 يوماً قبل وصولي إلى الرقة، المدينة التي انحدر منها في شمال البلد.

لكن كان لقرار الخروج من دوما عواقب خطيرة.

كانت سميرة قد اضطرت إلى الالتحاق بي، تهريباً أيضاً، بعد شهر ونصف من وصولي إلى الغوطة. كانت صارت مطلوبة من النظام بفعل وشاية تضمنها «تقرير أمني»، يقول إننا، هي وأنا وأقارب لنا، قلنا أشياء سلبية عن النظام في مناسبة اجتماعية قبل الثورة! التقارير الأمنية أداة فعالة من أدوات الرقابة على السكان منذ بداية الحكم البعثي، ارتقت إلى مستوى أداة تفخيخ المجتمع وزرع الريبة والخوف بين الناس والتحكم بهم في زمن حافظ الأسد. ووسيلة للانتقام أيضا: تكتب تقريراً بمن تكره، وإلى حين يتبين أن التقرير كاذب أو مبالغ فيه، يكون قد نال الضحية غير قليل من التعنيف والمهانة.

كان مستحيلاً أن ترافقني سميرة في الرحلة إلى الشمال، وكنا نفترض، هي وأنا، أن تهريبها إلى دمشق، ثم إلى بيروت، أسهل من تهريبي أنا إلى الشمال.

بمفعول راجع، أرى أن كل حدث جرى منذ الخروج من دمشق كان محملاً بالعواقب. لم نعد نتحكم، سميرة وأنا، بشيء من شروط حياتنا. افترقنا أول مرة حين تركتُ دمشق وظلت هي فيها، ثم افترقنا مرة ثانية حين قصدت الرقة، وبقيت هي في الغوطة.

سيكون الفراق الأخير طويلاً.

التواري مجدداً

في الرقة اضطررتُ فوراً إلى التواري من جديد. اثنان من إخوتي كانا مخطوفين عند داعش، التنظيم الذي لم يكن منفرداً وقتها، صيف 2013، بالسيطرة على المدينة، لكنه كان يتجه نحو ذلك تدريجياً. كان التواري مرة ثانية حلاً لمشكلة الاعتقال الممكنة عند تنظيم متوحش لا ينال معتقلوه زيارات، أو يحظى ذووهم بمعلومات عنهم (مثل حال الإسلاميين عند النظام في الثمانينات والتسعينات، ومثل حال كثير من معتقلي الثورة عند النظام اليوم)، وبديلاً عن منفى لم أكن أريد العيش فيه.

كانت الإقامة في المُتوارى الجديد مفيدة جداً لي ككاتب، يحد من فائدتها أني لم أكن قادراً على التجول في المدينة وارتياد المقاهي وسماع القصص من الناس.

كانت سميرة قلقة عليّ في الرقة، وهي تسمع قصصاً، تُضخِّمها المسافات عن وحشية داعش. وكانت هذه بالفعل فجرت سيارة مفخخة بعد أسابيع من وصولي إلى المدينة بمقر قيادة تشكيل مقاتل آخر، فقتلت عشرات منه، واضطرت من بقي منه إلى الانسحاب من المدينة. وكانت شقيقتي الوحيدة وأسرتها يخططون لمغادرة مدينة تتحكّم بها أكثر وأكثر الوجوه الكالحة للدواعش، وهو ما قاموا به فعلاً بعد حين: خرجوا نحو تركيا، قبل أن يستقر بهم المقام بعد 8 أشهر إضافية في هولندا. كان أحد أخوتي، أحمد، قد أفرج عنه بعد أسبوعين من وصولي المدينة، وبعد حين طلبته داعش من جيد، فهرب إلى تركيا. بينما كان فراس لا يزال في قبضتهم، وهو كذلك اليوم بعد عام وثلاثة أشهر من خطفه.

لم يكن هناك مناص من الخروج من الرقة التي لم أعش فيها فعلياً غير ست سنوات في مراهقتي، ولا جذور لي قوية فيها.

بعد ثلاثة أسابيع من خروجي نحو تركيا في أكتوبر 2013، البلد الذي لا يجد سوري دون جواز سفر صعوبة في الوصول إليه، اختطف نظام داعش اسماعيل الحامض، صديقي وطبيبي، والأب لخمسة أولاد، وواحد من قلة ممن كانوا يعلمون بوجودي في المدينة. لو لم أكن سبقت إلى الخروج، لكان محتماً أن أخرج فور اختطافه.

المنفى

بصورة ما، أشعر أن انفلات مصيري من بين يدي منذ الخروج من دمشق والافتراق الأول عن سميرة، يماثل مصير سورية الذي انفلت من بين أيدي السوريين، وافترق فوق 10 ملايين منهم، قريب من نصف السكان، عن مواطِنهم وبيئات حياتهم وأحبابهم.

ما حاولت تجنبه على الدوام، الهجرة والعيش في «المنفى»، وجدت نفسي فيه أخيراً، ضمن الشتات السوري المهول الذي يشمل أكثر من 3 ملايين سوري اليوم، غير المهجرين في الداخل.

لقد حُطمت ثورتنا، ودُمِّر بلدنا، ومُزِّقت حياة ما لا يحصى من الناس فيه.

لا أعرف التركية، غير أن السوري لا يجد نفسه غريباً جداً في هذا البلد الذي يكثر فيه السوريون، ولي فيه أصدقاء أتراك سبق أن تعرفت عليهم في دمشق. لا أزال بدون إقامة في تركيا بعد نحو عام من مغادرة سورية، وبدون وثائق سفر.

في البداية حاولت الحصول على وثائق سفر من بلد أوربي بمساعدة من أصدقاء لي من ذلك البلد، وفي البداية كان الأمر يبدو سائراً بسلاسة إلى الأمام. لكن تطاول الوقت دون نتيجة، وبدأت العمل مع سوريين وأتراك على بناء إطار لأنشطة ثقافية سورية في اسطنبول. وبعد نحو 100 يوم من الخروج إلى «المنفى»، كان متوقعاً مني التقدم بطلب للجوء السياسي في البلد المعني وأن أقيم فيه، كي أحصل على وثائق سفر. يبدو أيضاً أن هناك قائمة للأقوال الصحيحة في شأن طلب اللجوء السياسي، وكان يجب أن التزم بها. ومنها أني بلا بيت ولا دخل، لا مكان لي إن لم يؤوِني البلد الملجأ. لم يكن هذا صحيحاً، ولم أكن مستعداً لقوله. قلت العكس: إني أقيم في بيت، وآكل وأشرب، وقادر على إعالة نفسي من عملي، وإني أريد وثائق سفر فقط، دون أن تقيد حركتي، أو أن أضطر إلى العيش دوماً في بلد بعينه. كان مقصدي أني لا أريد تحميل البلد و«دافعي الضرائب» فيه أية أكلاف، وكنت أظن أني أفعل خيراً بقول ذلك. لكن لم تكن النزاهة هي المسلك الصحيح في مقام طلب اللجوء. فكان أن رفضت قنصلية البلد منحي أوراقاً للسفر إليه.

يجري التعامل مع اللاجئين بتفضّل، كأناس يؤمن لهم مأوى وحاجات معيشية، لكن ليس كأفراد أحرار وناشطين سياسياً ولهم قضية.

لم أكن قصدت تلك القنصلية أو قدمت إليها طلباً من أي نوع. كان أصدقاء من البلد الأوربي هم من حركوا الأمر في عاصمة بلدهم. إلا أن الأمر أدرج في نظامٍ للجوء متصلبٍ، كان يفترض بي أن أنضوي ضمنه. لكن ليس هذا ما كنت أحتاجه، ليس بيتاً دافئاً في مدينة أوربية، مع طاولة للكتابة وكفاية معيشية، ليس «سجنا فاخراً» هو ما يلزمني. الجماعة لم يكونوا مستعدين لمساعدتي في ما أنا محتاج إليه، يساعدون فقط فيما «يحتاجون» هم إليه، أو بالأحرى ما يحتاجه من «مدخلات» نظام لجوء غير قابل للتفاوض، وكي تكون من «مخرجات» النظام ليس لك إلا أن تجد خانة مرتبة سلفاً لتندس فيها، وتقبل هيمنته على حياتك وحركتك. يجري التعامل مع اللاجئين بتفضّل، كأناس يؤمن لهم مأوى وحاجات معيشية، لكن ليس كأفراد أحرار وناشطين سياسياً ولهم قضية. يُجرِّد النظام اللاجئين من حريتهم، من ذاتيتهم السياسية، يقايض ما يمنحه لهم من أمان وكفاية نسبية بتحديد شكل تعاملهم مع قضيتهم. قلتُ إن لي قضية، وأريد أن أعمل من أجلها. لكن هذا الكلام لم يكن يقبل ترجمة مفهومة إلى اللغة البيروقراطية لمدراء نظم اللجوء في البلدان الأوربية. ولأن النظام لا يتفاوض، ولا يسمع، ولا يرى الأفراد، لأنه مصمم لراحة البلد المستضيف وفرض نظام انضباطه على قادمين جدد لهم تجارب واستعدادات مختلفة، يجد لاجئون كثيرون أنفسهم مضطرون لمراوغته والالتفاف على قواعده، والكذب على عملاء النظام المولجين بالتعامل معهم.

واليوم، يبدو لي واضحاً أن نظام اللجوء المصمم دونما اهتمام إطلاقا بحاجات وآراء المنتفعين المفترضين منه، وبغرض تقليل نسبة اللاجئين، وجعل الوصول إلى البلدان الأوربية أمراً صعباً، مسؤول بقدر كبير عن صناعة التهريب المزدهرة من تركيا أو من شمال أفريقيا إلى السواحل الأوربية. يدفع اللاجئون مبالغ تصل إلى 8 آلاف يورو، أو 10 آلاف دولار وأكثر للفرد الواحد من أجل رحلة ليس مضموناً أن ينجح في إكمالها. غرق 3000 في المتوسط، ومات البعض بعد وصولهم إلى مناطق معزولة من البر اليوناني.

ساهم نظام اللجوء الأوربي أيضاً في زيادة شقاء السوريين وتحطم حياتهم. من المعلومات البدائية التي يفترض بأصغر دبلوماسي عمل في سورية أن يعرفها أن الحصول على جواز سفر ليس شيئاً روتينياً في بلدنا بحال، وأنه وسيلة ابتزاز وإخضاع سياسي من قبل النظام لعموم السكان، وأن أكثرية السوريين بلا جواز سفر. حين رفضت القوى الدولية الاعتراف بوضع خاص للسوريين، وتسهيل حصولهم على وثائق سفر، كانت عملياً تستأنف سياسة النظام القمعية حيال محكوميه، على نطاق عالمي. كأنما لا يكفي أننا محكومون بنظام طغيان جعل من البلد سجناً جماعياً، بل ينبغي التضييق على من ينجحون في الهروب من السجن. كيف إذن لا يكون ذلك مشجعاً للتهريب؟ لتزوير وثائق؟ للكذب على المحققين في مخيمات اللاجئين في بلدان أوربية؟ لأشكال مختلفة من التحايل على القوانين الأوربية؟

من المعلومات البدائية التي يفترض بأصغر دبلوماسي عمل في سورية أن يعرفها أن الحصول على جواز سفر ليس شيئاً روتينياً في بلدنا بحال، وأنه وسيلة ابتزاز وإخضاع سياسي من قبل النظام لعموم السكان، وأن أكثرية السوريين بلا جواز سفر.

من يحوزون جوازت سفر نظامية من السوريين إن لم يكونوا من النخبة، فإنهم ليسوا قطعاً ممن كانوا يعانون أسوأ الظروف في السجن الأسدي، أو هم الأحوج للجوء. على كل حال البلدان الأوربية صريحة في تفضيلها استقبال أصحاب الأموال أولاً، أصحاب الكفاءات والتأهيل العلمي الجيد ثانياً، ثم المسيحيين وعموم الأقليات ثالثاً.

هذا غير كريم على الأقل.

ليس من باب تحويل اضطرار إلى فضيلة، قررتُ البقاء في تركيا. كان لدي تقدير قديم بأننا، السوريين المشتغلين في الشؤون العامة، أحوج إلى معرفة بلدان مثل تركيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، منا إلى معرفة بلدان الغرب، من أجل فهم أفضل لأوضاع بلدنا ذاتها، وربما صوغ تصورات مناسبة لنهوضه.

ثم أن فرص العمل العام من أجل القضية السورية أكبر في تركيا بما لا يقاس من أية بلدان أوربية بفعل ضخامة عدد السوريين في البلد.

تركيا أيضا جارة لسورية، وهي أيضا المكان الأنسب لانتظار سميرة.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى