صفحات الحوار

سيفتلانا أليكسيفيتش: أكتب تاريخ العواطف

 

 

برشلونة – باسم النبريص

حين فازت بنوبل قبل نحو عامين، نُشرت قائمة اللغات التي تُرجمت إليها، وكالعادة، لم تكن العربية من بينها. بعد الفوز، لم يقصّر الكتاب العرب، فتابعوا بعض ما كتب عنها في غير مكان، وأعادوا إنتاجه عربياً.

“نوبل ذهبت هذه المرة لصحافية تحقيقات لا إلى أديبة!”، رأي شاع وتقييمات فيها من التصغير واللمز ما يندرج، على الأقل، تحت نطاق الرجم بالغيب (فمن منهم قرأ كتاباً كاملاً لها في حينه؟).

“العربي الجديد” التقت الكاتبة البيلاروسية سيفتلانا أليكسيفيتش موخراً في برشلونة وكان هذا الحديث.

■ بعد نوبل، هل تغيّر إيقاعُكِ في الكتابة؟

– لا. إيقاع الكاتب هو نَفَسُه. طريقة المرء في التنفس لا تتغيّر.

■ مثقفون كُثر يتساءلون حول ما تكتبين: أهو أدب أم صحافة؟ وماذا يعني لكِ الأدب اليوم؟ مع أني أعرف أن كتابتك هي نتيجة أو وراثة أو استمرار لتقاليد تاريخ الأدب الروسي، واهتمامه بـ”الإنسان الصغير”.

– أنا أيضاً أتساءل يومياً: ما هو الأدب؟ ما هي تلك الكتب الستة التي كتبتها؟ ومثلهم أتساءل أيضاً: هل ما كتبته أدب أم لا؟ لقد تغيّر الزمن، وكل شيء يتغيّر من حولنا. لماذا نتقبّل التغيير في معظم مناحي حياتنا، ولا نتقبّله في الأدب؟ فقط أسأل.

لقد استمعت إلى آلاف أصوات النساء اللائي شاركن في الحروب، وقد أحسستها مثل جوقات الكورس في المسرح الإغريقي. هذا الصوت القوي لا بد من أن أنقله إلى الورق، لا ككورس، إنما كـ”متن”. ولا يعنيني أن أُحسب ضمن كتّاب الروائع!

أنا لست مهتمة بنقل الأحداث الخارجية. اهتمامي ورسالة عمري ينصبّان على توثيق وكتابة الحياة الداخلية للناس.

لماذا لا ندع هذا التوثيق يتنفّس ويعيش هو أيضاً في ملكوت الأدب؟

■ ما هي تقنياتك لإجراء الحوارات مع من تلتقينهم؟

– أقدّم نفسي بأبسط لباس كي أشبههم وأكون “واحدة منهم”. وأتحاشى دائماً الأسئلة العامة والمُطلقة. فقط أحكي لهم، ومن خلال هذا الكلام الطبيعي والبسيط الذي أسمع، أستنتج ما يجب أن يُكتب، مع الاختصار الشديد. أعمل مئات الساعات كي أصل لثمرة صغيرة.

■ البعض يراك كسوسيولوجية ..

– كلا، لست هذه! أنا لست من هؤلاء كي أحدّد أسئلةً قبل مقابلة أي شخص… بل أتحدّث مع الشخص بلغته وأعيش تفاصيل عالمه. وحين يحسّ هو بهذا، ينطلق ويفيض.

■ هل ننتظر جديداً لك؟

– أشتغل حالياً على كتاب عن الحب بين رجل وامرأة، إذ وصلت إلى قناعة مفادها أن حكايات النساء هي أقوى بكثير من حكايات الرجال (ربما أنا لا أعرف كيف أسأل أسئلة الرجال الدقيقة).

أختار دائماً من بين الألوف الذين أُقابلهم، أناساً مبدعين وحساسين، رغم بساطتهم. وأظن أن كيفية الاختيار هي الأهم في مجمل صعوبات عملي.

لماذا أكتب أخيراً عن النساء؟ لأننا نعيش في زمن يفتخر رجاله بقتل الآخرين.

كصحافية وامرأة لا يمكنني فهم هذا المنطق الذي يتفاخر بـ”الانتصار” بهذه الطريقة، ألا تلاحظ كيف يفتخر الرجل في الحرب بسؤال: كم قتلت؟

أنا متأكدة من أن جميع النسوة اللائي عايشن الحروب، ينظرن بغرابة لما رأين وعايشن. الحرب لغز المرأة، بما هي أمّ ومانحة للحياة، بينما الأخرى هي كل النقيض.

جيل أبي كمثال، كان يتفاخر بقتل العدو. أمي، النساء عامة، لسن هكذا. الرجل يركّز على: كم شخصاً قتلَ، بينما المرأة قد تنتبه لموت طير وقع على الأرض أثناء المعركة.

■ يعيدنا قولك هذا لكتابك “ليس للحرب وجه أنثوي”…

– هذا الكتاب سبّب لي متاعب جمة. لم ينشر حتى وصل غورباتشوف للحكم. تنقل بين دار نشر وأخرى ورُفض.

لقد كنا رومانسيين في التسعينيات. كان غورباتشوف يحكي ويخطب عن “القيم”، وكان الناس مثله يؤمنون بما يسمعون. ولكننا الآن فقدنا الإيمان بالحياة ذاتها، لأننا فقدنا الإيمان بتلك القيم. قُتلت مجموعة من الصحافيين لأن أصحاب المال لا يريدون أن يكتشف المجتمعُ أسرارهم. لكن مع كل هذه القتامة، فشغلنا مهم ويجب علينا الاستمرار حتى النهاية.

■ ماذا عن كتابك “أولاد الزنك”؟

– عندما ذهبت إلى أفغانستان كتبت عمّا رأيت. وعشت تجربة تهديد صعبة وقاسية من الجنرالات. ومع ذلك لم أخف وواصلت طريقي.

■ ماذا يحدث في روسيا الآن؟

– طوال قرون، وليس فقط زمن الاتحاد السوفييتي، كان المكان الأثير للروس، لكي يحكوا ويفضفضوا بحرية، هو المطبخ. حالياً، مع بوتين، رجعَ المطبخ ليأخذ دوره التاريخي، كمكان وحيد يشعر فيه الروس بحريتهم، كي يحكوا عما يجري في البلد.

■ ما الذي يحدث في قاع المجتمع هناك؟

– جيلي خسر لأنه كان شيوعياً ولم يستطع تأمين نظام ديموقراطي. الأجيال الشابة لا تعرف ما هي الشيوعية. الجيل الجديد يتهمنا بالإخفاق وهو محقّ. لذا هم عادوا إلى كتب ماركس وتروتسكي ـ أكثر من سواهما ـ على أمل إعادة التجربة. يقولون لنا: أنتم أخذتم فرصتكم وفشلتم، تنحوا عن طريقنا ودعونا نأخذ فرصتنا ونجرّب.

■ ما المشكلة بالضبط؟

– المشكلة أن بوتين يتوجه في خطاباته القومية إلى هؤلاء بالذات قائلاً: نحن بلد عظيم. والعظمة ليست في الجانب العسكري فقط: غواصات نووية وطائرات وسلاح. إنها في مكان آخر.

إنه وحش!

■ يمكن القول إن كتبك هي منحوتة لتأريخ الألم؟

– لست مؤرخة. باختصار أنا لست مؤرخة: أنا أكتب تاريخ العواطف. إن روسيا الآن مقسومة: فقراء وأثرياء. ورأسماليتها متخلفة وبدائية ومتوحشة في آن. وحالياً ترجع الناس إلى كتب الثورة البلشفية في بدايات القرن الماضي، لأن كل ما رأته، بعد زوال الشيوعية، وحتى اللحظة، هو سيىء ومبهظ.

■ كم يأخذ منك تأليف كتابٍ في العادة؟

– ما بين 7 و 10 سنوات. والمادة الخام لكل كتاب تتجاوز آلاف الأوراق المكتوبة. لذا أحتاج زمناً ـ قد يبدو للبعض طويلاً، وهو ليس كذلك ـ للاختيار والتنقيح والحذف، حتى أصل إلى الصياغة النهائية، وأرضى عنها.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى