مراجعات كتب

سيمون التي تمثل مسلسلاً تلفزيونياً سورياً

 

 

يوسف بزي

تساءل أحدهم كيف لدولة منهارة بفسادها، ومتعسفة في قمعها، وموغلة باستبدادها، في مجتمع منكوب بفقره وحروبه وخراب عمرانه، كما الحال في سوريا، أن تنتج كل هذا الكم من المسلسلات الدرامية العالية الكلفة، المتقنة الإنتاج، والتي لا تنقصها الجودة الفنية؟ هذا أيضاً يجعلنا نتساءل كيف يمكن لدولة لا تستطيع تأمين الخبز لسكانها، ولا حتى قارورة غاز، ولا مياه صالحة للشرب ولا كهرباء، أن تكون فعّالة على هذا القدر بتأمين نظام فني وتقني ومالي وبنى إنتاجية كاملة، لصناعة باهظة كالمسلسلات التلفزيونية، التي تتطلب بنية تحتية ضخمة؟

من الواضح، في بلد كسوريا، أن ظهور هذه الصناعة ما كان ممكناً لولا قرار «استراتيجي» من السلطة نفسها، خصوصاً بعد وصول بشار الأسد إلى الحكم. الذي على ما يبدو كان مقتنعاً أن أدوات السيطرة على الأجساد والأفكار، التي استخدمها الأسد الأب، استنفدت فعاليتها، من التكرار الفظيع للشعارات والصور والأنصاب التذكارية والتماثيل.. إلى مصادرة فضاءات البث التلفزيوني، والإنغلاق الإعلامي والصحافي، واحتكار صناعة المعلومات. كانت السلطة «الجديدة» تروج نفسها أنها عصرية وحديثة، وأنها هي التي ستتولى الإنتقال من مجتمع «التأميم» المتقادم والكئيب والمتخلف، إلى مجتمع يساير العولمة ومظاهرها، مجتمع الانترنت والفضائيات ووسائل الإتصال المفتوحة والتكنولوجيا واقتصاد السوق.

وإذا كان حافظ الأسد قد استعان وقلّد كلاً من نظام كيم إيل سونغ في كوريا الشمالية، ونظام نيكولاي تشاوشيسكو في رومانيا الشيوعية، في صناعة آلية التحكم والسيطرة، فإن بشار الأسد، الذي سيبقي ويديم «منجزات» الأب، سيضيف إليها التجربة المافيوية الروسية التي أعقبت انهيار الدولة السوفياتية. مافيا أوليغارشية ولدت من قلب الجهاز البيروقراطي ـ الأمني الحزبي السابق، مستولية على ممتلكات الدولة ومؤسساتها وأرصدتها.

وبهذا المعنى، سيتطور فساد النظام السوري المالي والإداري والطائفي، من طور «اشتراكي» و»بعثي» بائس، إلى طور «رأسمالي متوحش» شديد النهم وفاقع في وقاحته، والأهم أن الإستيلاء على الثروة وتكديس الأموال والسيطرة على وسائل الإنتاج ومصادر الربح، ستكون شديدة التمركز بيد قلة من بطانة الرئيس وأقاربه ومحسوبيه، أي بما يتعارض كلياً مع النظام الرأسمالي الليبرالي وشروطه. وعليه، فإن «فجور» الثراء المفاجئ والكسب السريع سرعان ما ستتعمم مظاهره أمام أنظار ملايين السوريين، الذين كانوا يعانون الإفقار المستمر، فيما هم يُقبلون على أنماط حياة جديدة، استهلاكية، فائضة بالإغراءات والمتطلبات والكلفة.

كان من أثر هذا «التحول» الإقتصادي، التوسع في الإستثمار وظهور قطاعات اقتصادية جديدة، أهمها الإتصالات والميديا والخدمات والسياحة والعقارات الفخمة والسلع الكمالية..إلخ. ولذا، ليس صدفة أن بطانة الأسد، هي نفسها التي ستستولي على كل هذه الأنشطة الاقتصادية، وتستثمر فيها نهباً احتكارياً تاماً. وهي بهذا المعنى ستجمع قوة السلطة وقوة المال، معززة السيطرة المطلقة للطبقة الحاكمة، أمنياً وسياسياً.

سيكون الفساد السياسي (التسلط المفرط والعنيف) والفساد المالي ( النهب والإحتكار)، المقدمة البديهية لما هو أفدح: الفساد الأخلاقي، الذي في مناخ القمع الشديد، وغياب أي محاسبة أو قوانين رادعة، سيتحول إلى عاصفة مدمرة ومخربة للمجتمع السوري. ستتراكم المظالم وستنتشر الفضائح، وسيتكاثر الضحايا، إلى حد تمزيق الحياة الإجتماعية وانتهاكها يومياً.

لا تقول كل هذا رواية عمر قدور «من لا يعرف سيمون؟!»، إنها تسرد وحسب سِيَراً لشخصيات افتراضية ستكون حيواتها في خضم التحولات السورية الآنفة الذكر، وبالأخص في لحظة بزوغ الدراما السورية، هذه الصناعة العزيزة على قلب رجالات النظام، الذين لهم وحدهم عملياً حق الإستثمار فيها والقدرة على الإنتاج. هي رواية لسيرة فتاة جميلة، مضيفة طيران تصير ممثلة، وسيرة شاب مصور صحافي يطمح لأن يكون سينمائياً.

لا تقول الرواية الفساد، لكنها تسرد أفاعيله غير المرئية، ومظاهره العابرة، تاركة شروخه في الروح والجسد. ما الذي يصيب الطموح الفردي والحب والجنس والسلوك العام وقواعد التهذيب والعلاقات العائلية، عندما يتحكم بها الفساد بوجهيه الاقتصادي والأخلاقي، والذي يطالبنا لا أن نبيعه مواهبنا وأجسامنا وحريتنا وكرامتنا بل أن نهبه أرواحنا ودواخلنا أيضاً، أن نجبر أنفسنا على التخلي عن تقرير مصيرنا له.

لكي تصير سيمون ممثلة عليها أن تقدم على وهب ذاتها لصاحب السلطة والمال «الأستاذ صفوت»، لا جسدها بل روحها وذاكرتها أيضاً. هذا الأستاذ، وصل به جبروته أن أحد الروائيين «فكّر، مجرد تفكير، في كتابة رواية عنه، وأفشى بالفكرة لإحدى صديقاته، فشاع الخبر واضطر إلى تكذيبه بالإعلان عن اعتزاله الكتابة نهائياً، بعد أن امتدح بقوة مسيرة الإقتصاد الوطني».

الأستاذ نفسه، الذي «سيستحوذ» على سيمون، وفي لحظة غيرة منه على مشهد قبلة مثلته سيمون مع زميلها، سيسألها عند العشاء الفاخر:

«ـ أأعجبك لحم عاصي مراد؟

ـ هي مجرد قبلة في مسلسل، أنظر إلى الأفلام الأجنبية، إنها مليئة بالقبل.

ـ إنسي هذا الموضوع، سألتك أأعجبتك الوجبة التي أكلناها؟

ـ أنت تختار الأصناف الجيدة من الطعام.

ـ هذه المرة اخترت لأجلك نجماً وسيماً، وطلبت منهم أن يضعوه في الخلّ لمدة يومين قبل طبخه. لا تقولي أنك لم تميزي مذاق عاصي مراد!»

لا يروي عمر قدور فنتازيات على شاكلة «خريف البطريرك» (غابرييل ماركيز) أو «حفلة التيس» (ماريو فارغاس يوسا)، مثالاً لا حصراً، ولا يؤرخ وقائع السجون السورية والإغتيالات والقتل ومذابح زمن الثورة.. فهو وحسب، يفتح الستارة على كواليس صناعة الترفيه ومتعة الفرجة السورية، يفتح «باب الحارة» و»بواب الريح» وباقي المسلسلات على مشهدها الحقيقي، حيث القبلة تعادل أكل اللحم البشري، حرفياً لا مجازاً ولا تشبيهاً. وحيث «التمثيل» ما زال يجري على بعد خطوات من المحرقة الكيماوية. وما زلنا نتفرج.

[ صدرت «من لا يعرف سيمون؟!» عن دار نون للنشر، رأس الخيمة (الإمارات).

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى