صفحات الرأيهوشنك أوسي

سٍحر الأيديولوجيّات ومفسدة السلطة


بروكسل _ هوشنك أوسي()

الأيديولوجيا، أثناء ارتدائها لبوس المعارضة، يكون نقدها للسلطة، وطرحها نفسها كبديل لها، ذا منحى يوتوبي، وله بريق ساحر، يجذب الجماهير، ويلهب المشاعر، ويحفّز الأفكار والتصوّرات حول؛ إن الآتي، بموجبها، سيكون الأفضل من السلطة الحاليّة. فالأيديولوجيا، حين تكون في خندق المعارضة، بالضرورة، هي سلطة متخيّلة أو مفترضة لدى أصحابها والمؤمنين بها، الذين يسعون إلى تحقيقها، عبر الترويج والتسويق لها. وبالتالي، الأيديولوجيا المعارضِة، هي أيضاً سلطة، في المقلب الآخر، يتمّ ممارستها على نسق معيّن من البشر، غير المستنفعين من السلطة الحاكمة. بمعنى آخر هي سلطة لم تخض بعد امتحان الحكم. لذا، تبيح لنفسها نمذجة نفسها وشيطنة نقيضها الموجود في السلطة الحاكمة، حتّى لو اقتضى الأمر من الأيديولوجيا المعارضة، إثارة هالة من الأوهام والخرافات والقداسة حول خطابها وسلوكها. وكلما اقتربت الأيديولوجيا، باعتبارها منظومة قيميّة وأخلاقيّة وفكريّة، من استلام السلطة، تكون قد فقدت شيئاً من “براءتها”، إن جاز التعبير. وحين تصل إلى السلطة، تفقد بالتقادم ذلك السحر الذي كان يصدر عنها، ويلهب الجماهير، أثناء شجبها وإدانتها لممارسات وذهنيّة السلطة الحاكمة التي عارضتها، ما يجعلها بالضد من مصالح الشعب، فتغدوا احتمالات انقلاب الشعب عليها ممكنة. ذلك ان تحوّل الأيديولوجيا، من معبّرة ومدافعة عن حقوق الشعب ومصالحه، حين كانت في المعارضة، إلى وحش يفترس الشعب، وهي في السلطة، ثم طغمة حاكمة تلغي الشعب والدولة والمجتمع، يعزز الانقلاب عليها. وبالتالي، صحيح ان الأيديولوجيا، هي مهارة تقنين الأفكار وترتيبها ضمن أُطر وسياقات معيّنة، في مسعى لبلورة تصوّرات عقيديّة محددة لظواهر حركيّة المجتمع والدولة والسلطة والتاريخ، وصولاً الى ضبط رؤية الناس لمفاهيم الحياة والوجود والتطوّر والموت…، لكن، صحيحٌ أيضاً، أن السلطة، هي امتحان الايديولوجيّات. والتاريخ، كمعلِّم، يخبرنا؛ أنه ما من أيديولوجيا، وصلت الى السلطة، واستمرّت فيها ردحاً طويلاً، وحافظت في الوقت عينه على بريق يوتوبيّتها وسحرها. ذلك أن السلطة، بالضرورة، تلعب دور المَفسدة، عبر ترجيح المصالح على المبادئ.

الدولة الدينيّة، على زمن الخلافة الراشدة، كانت دولة أرستقراطيّة القبيلة. وعبّرت الفئات المسحوقة عن نفسها، ضمن المذهب الشيعي، المعارض لواقع الحال آنئذ، وفق خلفيّات دينيّة فيما يخصّ معضلة الولاية واستحقاقاتها. وحين دخلت هذه الأيديولوجيا، امتحان السلطة في التجربة الفاطميّة والصفويّة، تبدّت عليها تأثيرات السلطة وابتعادها عن أحلام الشعب وانغماسها في مباهج الدنيا وبهرجها. ومع إفلاس الأيديولوجيا الدينيّة (الإسلام السياسي) وانغلاقها أمام حركة الإصلاح، وانزلاقها نحو الفساد والاستبداد في التجربة العثمانيّة، وممارسة الأخيرة لأساليب السحق والصهر بحقّ الشعوب العربيّة والإسلاميّة، ورعايا السلطنة، ساهم ذلك في تعزيز وتغذية الاتجاه نحو تبنّي الأيديولوجيّة القوميّة لدى الأتراك والعرب وباقي الشعوب الأخرى، في مسعى للخلاص من تركة الدولة الدينيّة. وقتئذ، كان للأيديولوجيّة القوميّة، وما لها من ارتدادات “حداثويّة” للماضي والأصول، ذلك البريق والسحر الذي حشد ملايين البشر لخدمة مساعي تشكيل الدولة القوميّة أو الدولة _ الأمّة.

وبالنظر الى مخاضات ومجريات الربع الأوّل من الألفيّة الثالثة، يمكننا القول: إن منطقة الشرق الأوسط، ستطوي صفحة الأيديولوجيّات القوميّة، العروبيّة والتركيّة والفارسيّة والكرديّة…، ومشاريعها، بالاستناد على حقيقة إفلاس وفشل الدولة القوميّة أو الدولة _ الأمّة، وطغمها الأيديولوجيّة الحاكمة. ولعلّ أبرز فزّاعة كانت تبرزها الدكتاتوريّات في المنطقة، التي كانت ترتدي لبوساً أيديولوجيّاً قوميّاً ويساريّاً، وثوريّاً، هو التخويف من الأيديولوجيّة الإسلاميّة، وعودة الدولة الدينيّة. ذلك أنه مع بدء بناء الدولة القوميّة في الشرق الأوسط، دخلت الأيديولوجيّة الدينيّة طور المعارضة، ولم تصل الى السلطة إلاّ في التجربة الخمينيّة، التي بعد ثلاثة عقود، يبدوا واضحاً مدى تدهورها نحو الانحلال والتمزّق الداخلي. وينسحب الأمر على التجربة التركيّة الاسلاميّة _ الأردوغانيّة أيضاً، والتي ظاهرها بريق فاتن، وباطنها فساد واستبداد وإنكار لحقوق الشريك الوطني، والأخ في الدين والعقيدة، المختلف مع الحزب الحاكم في الانتماء القومي. وقد ظهر ذلك الى العلن، وبشكل قطع الشكّ باليقين، في الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة التي شهدتها تركيا، وكيف أن الحزب الحاكم، يريد هضم الدولة، ومكافحة “الدولة الخفيّة” الكماليّة _ العلمانيّة، وإحلال “الدولة الخفيّة” الإسلاميّة _ القوميّة، محلّها.

وعن شدّة درجة النفاق والدجل الداخلي لدى هذه النظم الاستبداديّة وتهويلها من عودة الدولة الدينيّة، يمكننا أخذ النظام السوري نموذجاً، عبر تخويفه الشعب من استلام الاخوان المسلمين للسلطة، فيما لو دقّت الديموقراطيّة باب دمشق، وتحوّل سورية الى دولة دينيّة. وفي الوقت عينه، كان ولا يزال النظام السوري، على علاقة استراتيجيّة ومصيريّة مع دولة دينيّة _ طائفيّة _ قوميّة، متمثّلة في إيران!. وبالتالي، أهمّ وأفضل وسيلة يمكن ان تتبعها الشعوب في معرفة مصداقيّة أيّ أيديولوجيا، عليها الدفع بها نحو السلطة، وترى مدى التغيير الحاصل فيها.

ينسحب الأمر على التجربة اليساريّة في المنطقة والعالم أيضاً. فثوّار الثورة الفرنسيّة، حين وصلوا الى السلطة، لم يفقدوا بريق وسحر ما نادوا به أمام الشعب وحسب، بل حوّلتهم السلطة الى قتلة وجلاّدين. الحال نفسه، سقط فيه بلاشفة روسيا السوفياتيّة، حين استلموا السلطة، بدأت الايديولوجيا تفقد رونقها والكثير من جاذبيتها، ووصل بها الحال الى درجة غدت فيه “سفّاح الشعب” في الحقبة الستالينيّة، حتّى أطاح بها الشعب نهاية التسعينات. وكذا الحال في كوبا كاسترو وليبيا القذافي وعراق صدّام حسين.

على ضوء ما سلف، لا سلطة من دون أيديولوجيا ولا أيديولوجيا، بلا سعي للسلطة. الأيديولوجيا، دم السلطة، وإذا بقيت حبيسة السلطة، يُفسد هذا الدم، وتفسد معه السلطة. ذلك أن تجدد السلطة وحيويّتها قائم فقط على تناوب الأيديولوجيات على استلامها، مع التزامها التام بالدولة المدنيّة، العلمانيّة، التشاركيّة، وعدم المساس بمبادئها وقيمها وتراثها. وعليه، فأن تداول السلطة، بين الأيديولوجيّات، ربما هو الكفيل في مسألة استمرار أو محافظة الأيديولوجيا على قدر من نضارتها وبهرجها. ذلك أنه لا يمكن للشعب أن يغيّر وطنه، لكن من حقّه الطبيعي أن يغيّر ذهنيّة سلطته. والشعوب بتجاربها. في حين أن المجتمعات بشعوبها، والأوطان بمجتمعاتها. وأمزجة الشعب قابلة للتبدّل والتغيير. وبالضرورة فهذا ينعكس على حيوات المجتمعات والأوطان بها هو خير للتاريخ والراهن والمستقبل.

() كاتب كردي سوري

المسقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى