صفحات الثقافة

سِحر القراءة/ لطفية الدليمي

 

 

استوقفتني كثيراً عبارات كان الكاتب ألبرتو مانغويل قد صرّح بها بشأن الكتابة ومفادُ تلك العبارات أنّ “رغبة اقتناء كتابٍ ما لا يمكن مقارنتها بالرغبات الأخرى بسبب أنها لا ترتبط بالأنانية أو الجشع أو الشهوة؛ بل إنها الدافع الذاتي لأن تكون جزءاً من شيء أعظم منك، وأن تنتمي إلى كوكبة من الكُتّاب قد يمنحك معنى حقيقياً لوجودك في الحياة..”، ثم ينتهي مانغويل للعبارة الكاشفة التالية المفعمة بحقيقة يدركها الكثيرون من عشّاق القراءة والكتاب”.. وإنني أتوق كثيراً لاقتناء كتابٍ ما كما قد أتوق تماماً لأصبع مفقودة..”.

عجيبٌ هو أمر القراءة وساحرٌ هو عالم الكتاب ولا أحسب أنّ عشق القراءة (عبر وسيط ورقيّ أو إلكتروني) سيناله التغيير المحتّم بسبب المتغيرات التقنية في عصرنا الرقميّ وفي عصر بزوغ تقنيات الذكاء الاصطناعي غير المسبوقة في السنوات القليلة القادمة والتي بانت بعض تباشيرها في أيامنا هذه، وربما تكون القراءة واحدة من الفعاليات البشرية الأكثر عصياناً على الاندثار والأكثر تشاركاً بين الكائنات البشرية إذا ما استثنينا تشاركهم في الفعاليات البيولوجية الأساسية لإدامة الحياة.

تخطيط: ساي سرحان

أودّ الحديث هنا عن سماتٍ محدّدة تختصّ بها القراءة بعيداً عن القناعات السائدة التي تجعل من القراءة طقساً أقرب إلى الطقوس التقليدية التي تُمارَسُ من غير شغف أو تفكّر.

أوّل هذه السمات هي أنّ القراءة تشكّل فعلاً حضارياً تجعل المرء يستشعر التواصل الثقافيّ والاستمرارية الحضارية عندما يفكّر في حقيقة أنّه يخوض غمار فعالية سبق أن خاض غمارها وتجشّم عناء مكابداتها وابتهج بمسرّاتها أعاظم مفكّري العالم قديمه وحديثه معاً: أفلاطون وأرسطو ولايبنتز وسبينوزا وكانت وستوارت ميل والتوحيدي وابن عربي وفرويد وفروم ونيتشه.. الخ، وتلك ميزة عظمى لا يعرفها سوى من خبر عالم القراءة واستكشف مسرّاته الخبيئة؛ ومن هنا نرى تأكيد العالم المتقدّم على

تضمين مناهجه الدراسية قراءات باتت تعدّ كلاسيكيات في ميدانها مثل الحوارات الأفلاطونية والملاحم الإغريقية والرومانية والنصوص الفلسفية الحديثة والمعاصرة.. الخ، وغالباً ما يُصارُ إلى قراءة تلك النصوص بلغاتها الأصلية (اللاتينية في العادة) من أجل الحفاظ على ثراء النصّ وأفكاره الأصيلة، وكم أحلم وأتمنى رؤية نصوص أعاظم فلاسفتنا ومفكّرينا (التوحيدي مثالاً) مضمّنة في مناهج مكثفة للقراءة في مدارسنا وجامعاتنا.

السمة الثانية هي أنّ القراءة فعل نبيل يمثّل خصيصة جامعة بين كلّ العقول الطامحة التي ترغب في إنجاز شيء جديّ وذي أهمية حاسمة في الحياة، وقد تختلف طرُز التفكير وتتباين الأنماط الذهنية والسيكولوجية لدى المبدعين وذوي القدرات اللامعة؛ لكنّ ما يشتركون فيه هو حبّ القراءة والاطّلاع والشعور الحميمي مع الكتاب وكأنّ فيه روحاً تناجي القارئ وتحدّثه وحده وبكيفية تتفق مع بصمته العقلية التي لا تشبه بصمة سواها، وهذا سرّ جميل من أسرار القراءة المبدعة، إذ يشارك القارئ الكاتب في استنطاق النصّ المكتوب واستكشاف أبعاد فيه تختلف عمّا يتحصّل عليه قارئ آخر، ومن أجل ذلك يُقالُ إنّ في قراءة كتاب رصين خلقاً لأرواح كثيرة.

أما السمة الثالثة فهي أن القراءة تُذكي الإحساس بالشغف وعلى نحوٍ يغدو فيه الكتاب مثل معشوق ننتظره وأرجلنا موضوعة في مجمرة نار، ولعلّ من جرّب انتظار صدور كتاب أو جزء مكمّل لكتاب أثير لديه يعرف مفاعيل هذا الشوق الممضّ في الروح!

كاتبة من العراق

العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى