صفحات الثقافة

سِحر “مولود”/ رشا الأطرش

 

 

القاتل شرطي تركي خارج الدوام. 22 سنة. مسدس واحد. يشبه ممثلي المسلسلات التركية الذين تهيم بهم الفتيات. حليق. بذلة سوداء تُحسن معاملة رشاقته. تسريحة شَعره لا خلل فيها. هل اعتنى بتصفيف شعره فيما كان يستعد لإطلاق النار على السفير الروسي؟ هل أخذ وقته في عَقد ربطة العنق؟ وسيم غاضب. يهتف لقضية، لمظلومية. حلب، سوريا. يتمشى خلف أندريه كارلوف، قُبيل إردائه. “مسرح الجريمة” معرض فني. يتظاهر “مولود مرت ألطنطاش”، بالتفرّج على لوحات في الخلفية، منتقلاً من يمين شاشة الفيديو إلى يسارها، يعدّل وقفته، يستلّ المسدس و…رصاص.

مشهد سينمائي مكتمل الأركان. كحبكة الهوليوودية، حيث الشرطي الخارج على القانون، وأهدافه النبيلة المختلطة بجرح شخصي، واستعداده البارد لعملية ينفذها صارخاً. والمفارقة بين ذلك كله، وبين حدوثه في “غاليري”. ثم التضاد بين العنف “النظيف” الفردي ههنا، ونقيضه الآرماغيدوني في سوريا. والاتصال بين صورة العنف المكلل بالدراما – أكثر من الدم – في صالة للفن الحديث بأنقرة، وصورته شاسعة الفناء في حلب البشر والحجر. كثيرون ممن شاهدوا فيديو الاغتيال، والصور الفوتوغرافية (برهان أوزبيليسي – “أسوشيتد برس”) التي تذكر بأفيشات الأفلام، نحَوا إلى رومانسية ما، مرتبطة بالعاطفة أكثر منها بالعقل، رغماً عن معاييرهم الأخلاقية، بل ورغماً عن وعيهم السياسي وكلفة هذه “الجريمة”، أياً كان موقفهم مما يحدث في سوريا.

“الحياة تقلّد الفنَّ أكثر بكثير مما يقلّد الفنُّ الحياة”.. قال أوسكار وايلد.

قد نفكّر في كوينتن تارانتينو وأوليفر ستون وفرانسيس فورد كوبولا. جماليات العنف. قسوة مغلّفة برقّة روح. الشرطي المجبول بالبهاء. ومن قبل، ربما فكّرنا في سوريا (اليرموك، حلب،..) إذ تحاكي “الخروج” لريدلي سكوت، ومؤثرات ستيفن سبيلبيرغ. رومانسية تطغى على فيديو الاغتيال التركي. القاتل لم يفجّر نفسه، وإن عَلِم، على الأرجح، أنه ميت لا محالة. لم يقتل سوى “هدفه”. ليس ملتحياً، وإن هتف “بمبايعة (النبي) محمد على الجهاد”، وبعبارة أسامة بن لادن أن “لن تذوقوا طعم الأمان طالما أن أشقاءنا لا يتمتعون به”. النفحة الإسلامية هنا بلا تأثير. أسلَمة العنف، الدارجة هذه الأيام، تبدو عقيمة، ولو دار كلام عن فتح الله غولن. التأثير للصوت، للقامة النحيلة المنتصبة، للرصاصة وأزيزها، ولجسد المسؤول الروسي إذ يتهاوى أمام شاب بلا عضد سوى ما يعتبره قضيته.

التحليل الأمني، وكون القاتل “ذئباً وحيداً” أو جزءاً من مخطط، غير ذي صلة بالوهلة الأولى. سينما/فيديو الاغتيال تأكيد على ذلك، وهذا ما رأيناه وثملنا به. هذا ما “علّمنا” الفن تذوقه من الأساس، بمُرِّهِ الحلو، نلوكه بعيوننا وأنفاسنا، فيسري ذاك الشجن. ثمة ما يذكّر بصور الفدائيين الفلسطينيين، زمن الستينات والسبعينات. بالبورتريه الأيقوني لغيفارا أو كارلوس. موقفنا السياسي والأخلاقي ينتحي جانباً، أو نتفكّر فيه كلحظة تالية. اللحظة الأولى للصورة، بكل قوتها. صارت هي المعنى. والصورة واقعية. الحياة فيها، كما الموت، تزخر بسِحر مولود. بمشهدية إرادوية تخطت فعل الشهادة. بالخيال الذي لم تشذّبه الكاميرا، بل إن خيالاً متحققاً أطلق عنان الصورة في فضاء محموم بمشاعر متناقضة-منسجمة، تماماً كما في لوحة سوريالية، أو في ذروةٍ مسرحية.

الجمال في ما نصدّق. فقد اضمحلّ الكذب.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى