إبراهيم اليوسفصفحات سورية

شارع الحرية


إبراهيم اليوسف

منقبض النفس، متوتِّراً، على امتداد شريطِ زمانيِّ، بدوت في ظهيرة أمس الأول، وأنا أتابع الخطاب الأخير لبشار الأسد ، الذي راح يستعرض عضلاته، ما يؤكد أن الاستبداد يعيش أنفاسه الأخيرة، كي أترك متابعة الخطاب الذي ظللت أشعر بالغثيان، طوال متابعتي له، حيث هتف إليَّ صديقٌ عزيزٌ: لقد قتلوا أحمد بن عبدالله بدرو..، قالها لاهثاً،حزيناً، وهو البعيد عن مدينتي قامشلي آلاف الأميال، وكأن هذا الصديق يعاين الحدث البشع، مباشرة، الأميال، وهو يشرح لي أن هذا الفتى الشهم، كان يرافق أباه وأحد الجرحى من المجموعة التي هجمت عليه، بغرض اختطافه، وكان أحمد يؤثر العناية بالجريح الذي همَّ باختطاف والده، كموقف إنسانيِّ، نبيلِ، منه، لاسيما وأنه كان يقول، كما روي لي: لقد كان الجريح رفيقي، وأنا أؤدِّي واجبي، ضمن صفوف حزب العمال الكردستاني، أحمل البندقية.

وبينما كنت أجرجر روحي، ورائي، تحت هول سماع النبأ الصاعق، لأترك العمل، من دون أن أكمل كتابة عمودي الأسبوعي، حزناً على هذا الشاب الخلوق، النبيه، الحنون، والمثقف الذي أصيب بانفجار لغم، في جبال كردستان-بينما كان في صفوفp.k.k- فشُلَّت إحدى قدميه، وكان يضطرُّ للاستعانة بعكَّازة، وهو يتنقل من بيته إلى أستوديو أوسكار الذي يعمل فيه، قرب بيته القريب من “جامع قاسمو”، العنوان الأول لثورة الشباب الكردي، كي أتلقى، بغتة، مكالمة أخرى يقول الهاتف إلي خلالها: لقد نصب كمين لنضال وعمَّار، شقيقي أحمد، وهما في طريقهما إلى المشفى الوطني في قامشلي، لاستلام “جسد” أخويهما الشهيد، وإن أحدهما استشهد مباشرة، والآخر في حالة خطيرة، ازدادت حرائق النار في كبدي، كي أبتهل إلى الله أن ينجو عمَّار، بيد أن الخبر الصاعق الأخير جاء: عمَّار أيضاً استشهد…!

-يا الله أمعقول هذا؟

-أمعقول ما تم؟

عدت إلى منزلي، القهقرى، أواصل الاتصال بالأصدقاء، لأتابع موضوع هاتين العمليتين، ومعرفة أسبابهما المباشرة، في أحرج فترة طراً بالنسبة لسوريا بشكل عام، وبالنسبة إلى شعبنا الكردي في سوريا بشكل خاص، إذ ليس آلم من اغتيال إنسان بريء، من أجل موقف بدا من غيره، أو حتى من أجل رأي خاص به، أو حفنة من مال أو عقار، لاسيما وأن عبد الله بدرو-ولست في صدد تقويم النقطة الخلافية بينه، ورفاقه فهي شأن آخر-إلا أنني أشهدُ أنَّ الرجل الذي دخل الحزب الشيوعي في ستينيات القرن الماضي، حين كان في بداية شبابه، ترك صدى كبيراً، وأثراً طيباً، في نفوس من كانوا معه، آنذاك، كما قرأت ذلك لاحقاً، من خلال بطولاته في المواقف التي تعرَّض لها، ولاتزال تروى عنه…، بما يشبه الصدى الكبيرعينه الذي تركه بين رفاقه في p.k.k-ضمن مرحلة زمانية ولو محددة- و هو الذي حضن في بيته أولى نوى حزب العمال الكردستاني في سوريا، ليكون بيته هذا دار رفاقه، تخدمهم أسرته، طوال فترة بقائه في الحزب، بل إن أكثر من ولد له حمل البندقية، وخدم رسالة pkk وتعرَّض للسجن، ليبقى في حدود وطنيته، ونبله، عندما اختلفت أسرته مع رفاقه.

لاتغيب عن مخيلتي، صورة جارتنا سكينة أم هجار-وهي صورة طبق الأصل عن الأم الكردية البطلة والمناضلة- وهي تتلقى نبأ إصابة زوجها بطلق ناري، فقد بسببه إحدى كليتيه، وسيكون الأمر مريراً حين ينسب الأمر إلى رفاق سابقين لزوجها، خدمتهم، طويلاً، وكانت أختاً و أمَّاً حانية لهم، بل وكيف أنَّ لهذه الخنساء الكردية أن تتلقى نبأ استشهاد ثلاثة أبناء لها، دفعة واحدة..!، ولعلي هنا، لأتذكر مأثرة موصوفة، من مآثر هذه المرأة الكردية الجبّّارة، وهي أنَّها ربَّت طفلة يتيمة اسمها”بيريفان” –على ما أذكر-استشهد أبواها، وهما من أبطال الغريللا، وكانت هي رضيعة آنذاك، فربَّتها هذه المناضلة، بضعة أعوام، كأنها ابنتها kurd ê” نفسها، التي كانت من أوائل الفتيات الكرديات اللواتي التحقن بالغريللا، الأبطال، وكان ذلك على حساب إكمال دراستها، وزهرة أيام عمرها، بل وأتذكر ما نقل لي عن هذه الأم-لأني لم أدخل بيت هذه الأسرة يوماً للأسف وكانت علاقتي بهم لا تتجاوز تبادل التحيات أنى التقينا مصادفة-بأنها بكت هذه الطفلة، طويلاً طويلاً، عندما أعادها الحزب إلى أهلها، في كردستان الشمالية، تاركة وراءها، رائحة ذكريات غالية.

شخصياً، أشهد أنَّ هؤلاء الشباب الأبطال، صاروا في عمق الحراك الشبابي الثوري الذي تشهده سوريا،كما سأعلم لاحقاً، وهناك ما يمكن قوله عنهم، في وقت آخر، ومن هنا، فإن فجيعة استشهادهم، وبأيد كردية-كما تمّ تبني ذلك وفق بيان خاص- تجعل المصيبة أكبر، وتجعلنا نقرع الأجراس معاً، لنقف ضدَّ الاقتتال الكردي الكردي، مادمنا نعيش مرحلة جديدة، لها أسئلتها، ولابدَّ من اللِّحمة، والحبِّ، ونبذ ثقافة الكراهية والانتقام، في مجتمعنا الكردي..!

لقد كان بيت عبد الله بدرو-أياً كان موقفه السياسي- معروفاً، علىصعيد الحي، ومن يعرفونه، بأنه عنوان أسرة وديعة، شريفة، مناضلة، معروفة، بمواقفها الإنسانية، والقومية، والوطنية، بيت كان يختصر مدينة في ذاته.

وشارع الحريَّة، واسطةُ الحيِّ الغربيِّ في قامشلي، الذي قطعته خمسة وثلاثين عاماً من عمري، ذهاباً وإياباً، حزينٌ، من أوله إلى آخره، وسيبقى ناقصاً، بعد فجيعته بغياب ثلاثة كواكب عزيزة، كانت تضوِّىء المكان ألقاً، وحنواً، ولن يكتمل البتَّة، بعد الآن…!.

شارع الحرية، ذاك، سيفقد ابتسامة أحمد، ونضال، وعمَّار، وهم يقفون باستعداد، كلَّما مر ّأحد الجيران.

شجرة البرتقال الوارفة، عادة، والتي تتجاوز جدار البيت العالي، مادام أنه في شارع الحرية نفسه، ستظلّ، حزينة، قرب جاراتها، بعد أن فقدت ثلاثة ممَّن فاؤوا إلى ظلالها، منذ سنوات طويلة.

أحمد، ونضال، وعمَّار، الجميلون، أبناء أمّي، لن أنساكم، لن ينساكم شعبكم، فأنتم خالدون في ضمائرنا جميعاً.

أجل، قامشلي برمَّتها ثكلى، بعد فجيعتها الكبرى، بفقد ثلاثة أبناء بررة، أعزاء، لهم تاريخ مشرِّف في دنيا النضال، إذ أدوا أدوارهم-ولو إلى حين-ضمن حزب، طالما أرَّقَ جنرالات الفاشست في تركيا، وهم يستهدفون محو وجود إنساننا الكردي، ليس في جزء واحد من كردستان، بل يرومون محو وجود الكردي، أينما كان…!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى