رشا عمرانصفحات الناس

شارع العرب في برلين/ رشا عمران

 

لا شيء يمنع شابا سوريا حديث السن من الاعتداء اللفظي على فتاةٍ سوريةٍ تمشي في واحدٍ من شوارع العاصمة الألمانية برلين، لمجرّد أنها تكلمت بلهجتها السورية، ولمجرّد أنها ترتدي لباسا لم يرق للشاب العشريني. حس الوصاية الذكوري الشرقي، واعتبار النساء اللواتي أتين من المكان نفسه (حريما) وقاصرات، يظهر واضحا في برلين، إن كنت تمشي في ما يسمى شارع العرب، وهو الاسم الذي أطلقه العرب اللاجئون إلى ألمانيا على شارع اسمه في الأصل (zonon alay) بالألمانية، أي طريق الشمس، سيجد قاصده أن اسمه اللاحق، شارع العرب، لم يطلق عليه عبثا، فالشارع مليء بالمحلات والمطاعم التي كتبت أسماؤها بالعربية الفصحى، عدا عن كلمة “حلال” المكتوبة على غالبية واجهات المطاعم والمحلات هناك.

ليس هذا فقط، ففي شارع العرب ستشعر أن الألمان أقلية، إذ لن تسمع سوى اللهجات العربية، سورية وفلسطينية ولبنانية، حيث يسيطر الفلسطينيون واللبنانيون الذين سبقوا السوريين في رجلة اللجوء سيطرة مافياوية على تجارة هذا الشارع منذ زمن طويل. وبعد هجرة السوريين، وجد كثيرون لهم ملاذا هناك. يمكنك أن تسمع أيضا اللهجتين، المصرية والعراقية، وبشكل أقل المغاربية، إذ يوجد المغاربة في مناطق أخرى ليست قريبة على شارع العرب.

من يعرفون تاريخ شارع العرب يتحدثون عن الفساد الذي يسمح لشارعٍ كهذا أن يستمر بما هو عليه، إذ تسيطر عائلةٌ لبنانيةٌ قديمة في برلين على تجارة هذا الشارع، كل من يريد أن يستثمر مدخراته، كي يعيش بكرامته، ويقرّر فتح مطعم أو بقالية أو أي متجر صغير في شارع العرب، يجب أن يمر عبر هذه العائلة. ثمّة إتاوة شهرية يجب أن تدفع من طالب الكرامة، كي يتمكن من فعل ما يريد، أو سيكون أحد أفراد العائلة تلك شريكا له، لا سيما إذا كان المراد إنشاء مشروع ضخم، وليس مجرد مطعم أو متجر صغير. ذكرني ذلك بسيطرة عائلة مخلوف في سورية على أي مشروع استثماري كان يود مستثمر سوري أو غير سوري إقامته هناك. كان رامي مخلوف يجب أن يكون شريكا، وإلا فالمشروع سيتوقف حتما، وفي شارع العرب في برلين يحدث الأمر نفسه.

في هذا الشارع أيضا، يمكن للعابر، إن كان شابا عربيا صغيرا، أن يعترض طريقَه رجلٌ مهمته تجنيد الشباب العرب للقتال في سورية مع حزب الله، يقولون إن محاولاته ليست ناجحة دائما، لكن الحاجة إلى المال قد تغري بعض الشباب بالتطوّع للقتال، وربما الموت في المحرقة السورية، مثلما يمكن أن يتعرّض للإغراء بالعمل (بالأسود)، كما يسمى سوق العمل الخارج عن مركز العمل الرسمي في برلين، بحيث لا يخسر اللاجئ المساعدات التي تأتيه من الحكومة. وحينما نتحدّث عن اللاجئ، ليس المقصود السوري فقط، بل كل الشباب العرب الذين وصلوا إلى برلين بطرق غير شرعية، أو حتى شرعية، هاربين من الفقر والقمع والموت البطيء والسريع في بلادهم.

لا تستغرب أيضا إن سمعت عن لاجئ طعن زوجته بسكين عدة طعنات في وسط هذا الشارع، من دون أن يجرؤ أحدٌ على التدخل، لمنعه من ذلك، سواء بذريعة الخوف من هيجانه، أو بذريعة عدم التدخل في شأن شخصي قد يكون قضية شرف، فالزوجة حتما ناشز، وتستحق عقابا كهذا، بالنسبة لعربٍ كثيرين هناك، وهذا جزء من معاناة المرأة السورية، أن الحقوق التي تحصل عليها اللاجئة تجعل منها زوجةً، أو ابنة، أو أختا، خارجة عن العادات والتقاليد التي تربت عليها، ناشزة بمعنى ما. وهو السبب نفسه الذي يبيح لأي شاب عربي صغير التعرّض بالكلام المسيء لأي فتاة عربية، خطر لها أن تذهب إلى شارع العرب، وهي ترتدي لباسا “غير محتشم”، إذ يظهر الحس القبلي والعشائري الذي اصطدم بمدنية تجاوزت خيال اللاجئ، فوجد في شارع العرب مكانا آمنا له، يمكّنه من الحفاظ على بعض توازنه.

في شارع العرب في برلين، يأتيك إحساس، أنت القادم من عاصمة عربية، أنك لم تغادرها، لا أسماء المحلات، ولا السلوك العام للبشر هناك، ولا ثقافة الطعام والشراب، ولا الفساد الذي يطل في كل زواية، ولا شيء، سوى بعض الوجوه الألمانية العاشقة للطعام العربي، يمكنها أن تذكرك أنك في برلين، ولست في أية مدينة عربية من مدن شرقنا السعيد.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى