صفحات الرأيناصر الرباط

شبح الإمبراطورية ما زال يخيم على نظرة أوروبا إلى المهاجرين/ ناصر الرباط

 

 

في مقال تحليلي قصير في جريدة «الغارديان» (9/5/2017)، استنتج الكاتب ديفيد ويرينغ أن رفض الإمبراطوريات السابقة، بريطانيا وفرنسا في شكل خاص، الاعتراف بجرائم الإمبراطورية بحق المستعمرات الأفريقية والآسيوية، يقبع في خلفية السياسات المعادية للهجرة التي أدت، في ما أدت، إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وحصول اليمين المتطرف في فرنسا على حصة معتبرة من أصوات الناخبين في انتخابات الرئاسة الأسبوع الماضي. وهو قد توصل إلى أن استيعاب المهاجرين كمواطنين جدد في أوروبا يتطلب مراجعة الثقافة العامة في بلدان الإمبراطوريات السابقة، كما بدأ إيمانويل ماكرون بفعله في تصريحاته عن الاستعمار الفرنسي في الجزائر، لتطهير النرجسية الوطنية المجروحة من رواسب عظمة الإمبراطورية البائدة وتحقيق انفتاحها على الآخر الداكن اللون، الذي كان يوماً ما تابعاً ومستعمَراً وخاضعاً وبعيداً، وأصبح اليوم مواطناً متساوياً في الحقوق والمسؤوليات والانتماء.

ليس ثمة جديد، نقدياً أو تحليلياً، في مقال ويرينغ، إلا أن توقيته ونشره في جريدة واسعة الانتشار بين النخبة اليسارية المثقفة وربطه المباشر بين مشاكل الإمبراطورية ومشاكل الهجرة المعاصرة إلى أوروبا، تعطيه أهمية خاصة في هذا الوقت بالذات، حيث تمر فرنسا وبريطانيا معاً بفترة حاسمة في إعادة رسم السياسات العامة لكلا البلدين، وفي شكل خاص سياسات الهجرة واستيعاب المهاجرين، إثر انتخاب ماكرون في فرنسا وانتصار بريكزيت في بريطانيا (وقبله انتصار ترامب في الولايات المتحدة، ولكن لذلك قصة شرحها يطول).

هذه السياسات العامة الأوروبية تتجه كما نعرف باتجاهين مختلفين سياسياً وفلسفياً: فرنسا ستؤكد انتماءها إلى أوروبا ومفاهيمها ومبادئها ذات الجذور الإنسانية-العلمانية، التي لا تخلو طبعاً من مفاهيم استعلائية واستعمارية وحذر تجاه الهجرة، ولكنها منفتحة على مراجعة النفس والموقف من الآخر والبدء بقبوله كجزء من الهوية الجمعية للشعوب الأوروبية، كما أكد أكثر من مفكر أوروبي معاصر. أما بريطانيا فهي اختارت الانفصال عن أوروبا لأسباب عدة طبعاً، ولكن معاداة الهجرة واحد من أهمها، والخوف من الآخر والتعالي عليه من محركات هذه العداوة.

استحضار شبح الإمبراطورية الذي ما زال يخيم على التفكير السائد في أوروبا من هذا المنظور أكثر من ضروري. فالأحزاب اليمينية المعادية للمهاجرين على صعود في غير بلد أوروبي. وهي على رغم هزيمتها في الانتخابات في النمسا وهولندا هذه السنة، والآن في فرنسا، ما زالت تحرك قطاعات واسعة من الرأي العام وتهدد الانفتاح الأوروبي الحالي. مقارعة تعصبها وعنصريتها وقراءتها الأحادية التوجه للتاريخ من أهم أدوات هزيمتها سياسياً. وإعادة تقييم إرث الإمبراطورية من أهم هذه الأدوات. وهو مهم أيضاً من منطلق الإيمان بالمبادئ الإنسانية-العلمانية التي اتخذها الاتحاد الأوروبي أساساً لدستوره وتشريعاته المشتركة. وهو ضروري في شكل خاص للشعوب المستعمرة سابقاً وحكوماتها التي ما زالت لا تعرف كيف تتعامل مع رواسب الاستعمار وفي شكل خاص مع تبعاته الإنمائية والاقتصادية والسكانية، وفوق هذا وذاك الأخلاقية والتاريخية.

فقد امتص الاستعمار الأوروبي أغلب خيرات مستعمراته ولم يترك لها الكثير حتى منتصف القرن العشرين، عندما بدأت الدول المُستعمرة بالحصول على استقلالها. لكن الاستقلال، الذي وضع في غالب الأحيان شروطاً مجحفة على المستعمرات، لم يجلب معه الرخاء المنشود أو الاستقلالية الاقتصادية والسياسية المبتغاة. فالاستعمار كان قد استنزف موارد وقدرات الدول المستعمَرة خلال قرون الاستعمار الطويلة، واقتصادها كان قد ربط بطريقة بنيوية لا فكاك منها بالاقتصاد العالمي الذي سيطرت عليه الشركات الغربية الكبرى المتعددة الجنسيات، والتي استمرت باستغلال الموارد الأولية وباحتكار سوق المواد المصنعة لمصلحة اقتصادات الدول الكبرى. وزادت الأنظمة العسكرية الشمولية التي خلفت الأنظمة الوطنية بعد الاستعمار وتجارب اشتراكية الدولة الفاشلة والحروب الأهلية العرقية والدينية التي تنازعت حدوداً فرضت على شعوبها فرضاً بفعل التقسيم الاستعماري من معاناة الشعوب التي لم تزل ساذجة سياسياً وفاقمت مشاكلها إلى درجات يصعب التأقلم معها والعيش في ظلها.

هذه هي الخلفية التي يجب علينا أن ننتبه إليها إذا ما نظرنا الى مأساة الهجرة إلى أوروبا التي تصاعدت مؤخراً وتكاثر ضحاياها. فأوروبا شبه-المتحدة التي جمعت ثروات طائلة من الاستعمار، لا تستطيع استيعاب الملايين من دول الجنوب الذين يرغبون في الهجرة إلى أمنها أو رخائها. وهي متخوفة من تصاعد وتيرة هذه الهجرة ومن تأثيرها في رفاهيتها المادية وخصوصياتها الثقافية وتركيبتها السكانية والعرقية. وهي جربت حلولاً عدة لوقف سيل هذه الهجرة أو لتخفيف تسارعها أو تحويل وجهتها وتجنب المآسي المزعجة التي تتحدى قوانينها وتخدش حساسية مواطنيها والرأي العام العالمي من جهة، ولمقاومة غلواء أحزابها اليمينية المتطرفة التي تطالب ليس فقط بإقفال باب الهجرة وإنما أيضاً بطرد الملايين من المهاجرين المقيمين حالياً في أوروبا بدعوى أنهم إرهابيون أو كسالى يعيشون عالة على أنظمة الضمان الاجتماعي، أو في شكل أبسط، غير قابلين للتأقلم مع الثقافات الأوروبية من جهة أخرى. ولكن هذه الحلول لم تنجح حتى الآن، بل إن تفاقم الأزمات الاقتصادية وتفشي البطالة وانهيار الأنظمة السياسية وانعدام الأمن في العديد من دول الجنوب، بخاصة دولنا العربية المنكوبة بالحروب الأهلية، قد أججت الهجرة غير الشرعية بغض النظر عن احتمال الموت من دون الوصول إلى أوروبا.

من هنا تبرز أهمية مراجعة مسؤولية الاستعمار الأوروبي عن الأوضاع المزرية في بعض دول الهجرة التي بدأت تظهر على الساحة السياسية والثقافية الأوروبية، والتي بدأ صداها يصل إلى أعلى مراتب السلطة، كما في حالة ماكرون، وإلى أروقة الاتحاد الأوروبي. فهذا موضوع على أوروبا أن تناقشه وتحاول إيجاد حلول له منسجمة مع المبادئ الأخلاقية التي وضعتها لنفسها ومع واقع الهجرة إليها. ربما سيأتي اليوم الذي ستعترف فيه أوروبا بمسؤولياتها التاريخية وتعتذر من مستعمراتها وتبدأ بدفع تعويضات لضحاياها من الجنوب، كما انتزع معمر القذافي ٣ بلايين يورو من إيطاليا عام ٢٠٠٨. لكن الهدف الأهم الآن هو تشجيع الأصوات الأوروبية المطالبة بوقفة نقدية مع الذات التي ما زالت تتعامل مع اللاجئين المقيمين من منظـور الإمبراطورية، تمهيداً لتفكيك هذا الإرث وإزالة تأثيره السام في الثقافة والسياسات الأوروبية المعاصرة.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى