صفحات سوريةعلي جازو

شبح الانتحاريين في كل مكان/ علي جازو

 

 

الانتحاريون يشعلون الحرب حيثما شاؤوا، وقتما يشاؤون. إنهم يختصرون الحرب دفعة واحدة في لحظة واحدة. يطوي المسلك الذي ينتهجه الانتحاريون صفحة الحرب التقليدية، إذ يبثّون الرعب في أماكن تجمع المدنيين، وحيث لا جبهة محدّدة لهم تتحوّل الميادين العامة إلى ساحات حرب فعلية، غير متوقعة، حيث يوجهون ضربات مباغتة.

ثمة نوعٌ جديدٌ من الحروب والغزوات المتنقلة، العابرة لحدود الدول

وجبهات القتال التقليدية، ترسّخ وانتشر أكثر فأكثر منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، التي كانت سماء نيويورك ميدانها «المقدّس».

لقد غدت هذه الغزوات التي يُقدِم عليها انتحاريون «أكفّاء»، في مثابة نمط قتاليّ مُحكَم، حيث تفشل على الدوام الخطط التي تسعى إلى جبهها ووقفها عند حدّها. وإذ لا حدود مانعة وقادرة على أن تكبح أفعال الانتحاريين، تصعب إمكانات توقّع حدوثها، والقول أن اليأس المدمّر مصدر هذه الحروب لا يكفي لتفسيرها، وإن كان يقدم سؤالاً عاماً حول سبب من أسباب نشوئها؟

في الغالب، لا يستهدف الانتحاري قوى عسكرية كما يجري عادة في الحروب، لكنه يبحث عن إضعاف دول وقوى عسكرية بوسيلة تكاد تكون بدائية، خصوصاً إذ لا يكون الهدف من وراء العمل الانتحاري مهماً في حد ذاته، قدر ما تهم النتيجة، والتي تنتهي غالباً بمذابح مروعة معظم ضحاياها أبرياء مدنيون.

ويبدو أن قوة المنطق والعقل تخسر أمام شراسة هجمة الخرافة. فعقيدة الانتحاري لا يمكن مجابهتها بالعقل ولا بالقوة نفسها التي يلجأ إليها. لا يمكن مجابهة يأسٍ كهذا إلا بإعادة الأمل إلى هؤلاء، الذين فقدوا كل صلة مع وحدة الشعور الإنساني السليم.

وإذ لا جبهة محدّدة، تتحول مجابهة الانتحاري إلى بحث شبه أعمى داخل متاهة، إذ يمكن أن يظهر في أي مكان وأن يضرب في أي وقت. غياب شرطَي المكان والزمان عن فعل الانتحاري يحوله إلى طاقة فوق الطاقة، وقوة فوق القوة. إنه يتحرك وسط عالم شبحي، ويمكن ظلاله أن تتمدّد حيثما يشاء. منذ 11 أيلول حتى الآن، لم تنفع كل الاستراتيجيات الغربية في وقف عمليات كهذه، كانت آخرها مذبحة باريس. وحينما تعجز دول العالم الكبرى والقوية عن وقف هكذا توجه «عالمي» بدوره، نغدو في مكان تنعدم فيه شروط القوة مقابل الضعف. إن الضعف الذي يلهب الانتحاري ويمده بالجرأة يحول قوة القوي إلى هشاشة وضعف.

الانتحاري لا يهدد شخصاً بعينه، وهنا تكمن خطورته، هنا يكمن لغزه الذي يصعب فكّه. إنه يهدد الجميع ولا يهدد أحداً بعينه. شخص واحد قادر على تهديم الجميع يحتاج إلى فكرة خيالية حتى يحول فكرته إلى حقيقة دموية. على هذا النحو، في جو من الغيبوبة العقلية، يتحرك شبح الانتحاريين. القول إنهم من خلفية دينية محددة لا يكفي لوقفهم ووضع حد لأفعالهم.

يحطم الانتحاريون منطق الحرب التقليدية وأدواتها المألوفة، إذ لا جبهة لهم حيث تكون كل الجبهات مستهدفة. يمكن الجبهة هذه أن تفتح في أي مكان، في مسرح أو قرب مطعم أو داخل حانة، أو في ساحة عامة أو قرب محطة مواصلات. إنهم إذ يقتلون وينشرون الهلع وسط المجتمع من حيث لا يمكن توقّع وجودهم.

وسط عالم شبحي كهذا، ألا تكون الطائرات من دون طيار، الوجه المابعد حداثي أمام الوجه البربري للانتحاري؟ في الحالتين الشديدتي التناقض، يُختصَر هولُ عالمنا اليوم.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى