صفحات العالم

شبكة للمعلومات… أم ساحة للمؤامرات؟/ وحيد عبدالمجيد

 

 

حديث المؤامرة حاضر دوماً في المجال العام في كثير من بلداننا العربية. يزداد حضوره أوقات الأزمات والاضطرابات، ويبلغ الآن ذروة ربما كانت سابقة لأسباب أهمها اثنان:

أولهما إعادة إنتاج الجدل حول اتفاق سايكس بيكو (1916) بمناسبة مرور قرن عليه. فقد شغل الاتفاق حيزاً واسعاً في حديث المؤامرة على مدى عقود طويلة. وتزداد مساحة هذا الحيز مع الذكرى المئوية إذ يراه كثيرون من العرب مؤامرة لتقسيم «الأمة».

أما السبب الثاني فهو الاضطراب الهائل الذي يسود المنطقة، والحروب الداخلية المشتعلة في عدد من بلدانها. فالتفسير التآمري لهذا الوضع شائع على نطاق واسع، على رغم سهولة إدراك أنه يعود إلى تراكمٍ نتج من استبداد وفساد وإفقار وتمييز على مدى عقود. وفي موقع القلب من التفسير التآمري حديث شائع عن مؤامرات لتفتيت البلدان التي تشتد فيها الاضطرابات، و «إسقاط الدولة» في بلدان أخرى.

ولا ينتبه المنغمسون في حديث المؤامرة إلى التعارض بين هجاء «سايكس بيكو»، ورفض أي تغيير في الخريطة التي أنتجها. وليست ثنائية هجائه والخوف من تغيير ما ترتب عليه، إلا واحدة من مفارقات كثيرة يعج بها حديث المؤامرة في مرحلة تتصدر فيها الخرافات المشهد العام في بلدان عربية عدة. فكيف تكون الخريطة التي يُقال إن مؤامرة تُدبر الآن لتغييرها هي نفسها نتيجة مؤامرة حيكت قبل قرن؟

غير أن حديث المؤامرة لا ينشغل بهذا النوع من الأسئلة، ولا بأية أسئلة تحض على تفكير جاد لا مكان له في هذا الحديث الذي يريح المنغمسين فيه، ويعطيهم تفسيراً سهلاً ينهل من معين للخرافة لا ينضب.

كانت المؤامرة أكثر أنواع الخرافات التي لجأ إليها البشر وما زالوا، لتفسير المستعصى عليهم. ولا يعني ذلك أنه لا توجد مؤامرات البتة. لكنه يعني أنها استثناء في التاريخ، واستثناء تناقص تدريجياً مع ازدياد المعرفة، وتنامي دور العقل منذ مطلع العصر الحديث وتحرره من الخرافة بمقدار ما يتوافر له من مقومات للتقدم والخروج من أسر الخرافة.

غير أن قطاعاً يُعتد به من العرب ما زال أسير تفكير بدائي ينتج من تعطيل العقل الذي يعقل الأمور ويميز بينها. وحين يُعطل العقل الذي يعقل ويميز، ينتفي مفهوم الاستحالة العقلية الذي يعصم من التفكير الخرافي، وعندما ينتفي هذا المفهوم، يصبح كل شيء ممكناً مهما تجاوز العقل وتناقض مع أبسط قواعد المنطق.

ويساهم ازدياد الفقر المعرفي والثقافي في توسع نطاق التفكير الخرافي عربياً، على رغم انكماشه في معظم أنحاء العالم بفعل التحولات النوعية المترتبة على ثورة الاتصالات التي فتحت آفاقاً غير محدودة لمعرفة ما يحدث في أي مكان في العالم، وأتاحت قدرة غير مسبوقة على فهم الظواهر وتفسيرها من دون الحاجة إلى البحث عن مؤامرات.

فقد غيّرت شبكة «الانترنت» الكثير من المفاهيم وأحدثت تحولاً جوهرياً في نمط الحياة، عندما كسرت الحواجز التي كانت تحول دون تدفق معلومات صارت متاحة على المشاع، وأضعفت إمكانات الاحتفاظ بأسرار أو إخفائها. لكن هذا التغيير لم يفعل فعله التحرري على المستوى العقلي في العالم العربي إلا في حدود ضيقة، بسبب التجريف الذي أصاب معظم المجتمعات العربية في العقود الأخيرة. ويسعى دعاة الاستبداد اليوم، فضلاً عن ذلك، إلى غلق الطريق الذي يفتحه هذا التقدم النوعي باتجاه تحرير العقل من أسر التفكير الخرافي، عبر حملات تهدف إلى شيطنة وسائل الاتصال الحديثة وترويج أنها ساحات للمؤامرات وأدوات للتآمر، على النحو الذي يحدث بكثافة في مصر الآن.

وعندما يصبح ممكناً ما يستحيل على العقل قبوله في وضع طبيعي، يمكن أن تكون أكثر وسائل الاتصال علانية هي نفسها أخطر ساحات للتآمر الذي يُفترض قيامه على الكتمان والسرية الكاملة. فالمؤامرة بحكم التعريف هي ما يدبره طرف أو أكثر ضد آخر في الخفاء ومن دون علمه. وهي ترتبط في مبناها ومعناها بالمكائد والدسائس التي تُحاك في الظلام، أي أنها عمل سري يُدبر بليل ويُنفذ في الخفاء.

لذلك تُعد العلنية الكاملة التي هي أخص خصائص شبكة «الانترنت» ومواقع التواصل الاجتماعي عبرها، مناقضة لكل ما تُستخدم كلمة المؤامرة للتعبير عنه.

غير أن ذلك القطاع من العقل العربي الغارق في الخرافة يحقق «إسهاماً» مدهشاً في «المعرفة»، عبر ترويج خرافة جديدة مؤداها أن مواقع تواصل مفتوحة على مصاريعها يمكن أن تكون ساحات للتآمر ووسائل لتدبير مؤامرات وتنفيذها جهاراً نهاراً تحت بصر «المتآمَر عليهم».

وبدأت مقدمات ذلك «الاختراق» المدهش عندما زعم خصوم بعض ثورات الربيع العربي أنها ليست إلا مؤامرات دُبرت عبر مواقع «فايسبوك» لإسقاط الدول التي نشبت فيها. واستدلوا على ذلك بأنها لم تندلع إلا بعد ازدياد معدلات التواصل عبر شبكة «الانترنت»، على رغم أن العقل البسيط يعرف لدى تشغيله أنها نشبت بعد ازدياد معدلات القهر والفساد والفقر وإهدار كرامة البشر، وتراكم ذلك عاماً بعد عام إلى أن حدث الانفجار وفق قانون معروف في الكون والطبيعة والحياة، وهو أن التراكم الكمي يؤدي إلى تحول نوعي.

وخلق هذا الاتجاه إلى شيطنة شبكة «الانترنت» تطوراً جديداً في حديث المؤامرة عبر حملات لتخويف من ينطلي عليهم هذا الحديث مما يُطلق عليه «حروب الجيل الرابع». ويُقال إن هذه أحدث أنواع الحروب وأكثرها خطراً، وإنها تعتمد على بث الإشاعات والبلبلة في المجتمع بهدف «إسقاط الدولة» من دون شن حرب مسلحة عليها. ومن عجب أن تكون وسائل قديمة قدم البشرية تقريباً، كالإشاعات، سلاحاً رئيسياً في «أحدث الحروب» وأداة أساسية للتآمر عبر شبكة «الانترنت».

لقد حققت القوى المضادة لثورات الربيع العربي نجاحاً حتى الآن في إحباط حلم الحرية والكرامة الإنسانية، لكن هذا النجاح لم يكفِ لإزالة صدمة هذه الثورات التي كان السعي إلى تشويهها بداية لشيطنة أكبر ثورة تقدم حققتها البشرية، وهي ثورة المعلومات والاتصالات التي لا يتيسر لأي بلد أن ينجح في هذا العصر من دون امتلاك أدواتها والتحليق في آفاقها.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى