مراجعات كتب

“شجاعة اليأس” لجيجك: لا ضوء في نهاية النفق؟/ شادي لويس

 

 

 

لا يقدم لنا الكتاب على المستوى العملي-السياسي سوى تلك الدعوة للاستفاقة

في كتابه الجديد،”شجاعة اليأس” الصادر بالإنكليزية، يعيد الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك، تناول فكرة رئيسة، سبق أن طرحها في مقال له بالعنوان نفسه، ونشر في مجلة “نيو ستاتسمان” في يوليو/تموز 2015. وفيما كان المقال الأول معنياً بالاستفتاء اليوناني حول حزمة الإنقاذ الأوروبية، والتي وإن صوّت اليونانيون ضدها فإن حكومة ائتلاف اليسار الراديكالي “سيريزا” التي دعمت للتصويت بـ”لا”، انتهت بقبول الحزمة كما هي من دون تغيير. وكتابه جيجك الأخير، يوسع أطروحته لتتناول تناقضات الرأسمالية المعولمة: الإرهاب، صعود اليمين الشعبوي، التوتر الجيوسياسي، “الحركات التحريرية الراديكالية الجديدة” في إسبانيا واليونان، وأزمة اللاجئين. حاول جيجك، في مقاله قبل سنتين، تبرير قبول “سيريزا” لحزمة القروض الأوروبية وشروطها، مستعيناً في نهاية المقال بمثال الثورة المصرية لتدعيم فكرته عن مواجهة الطموحات اليوتوبية لحقائق الواقع وتعقيداته.

وكما تبدو إشارات جيجك تلك مفتقدة للحد الأدني من الألمام بالمعلومات الأساسية عن الواقع السياسي المصري وتحولاته، فإن ما يقدمه في كتابه بخصوص “الاختيارات العظمى”، التي واجهها العالم في 2016، لا يتجاوز الخطاب الرائج الذي يتبناه بعض اليسار الراديكالي الغربي. فبحسب جيجك أن إدراكنا للطبيعة الخادعة لتلك الخيارات الكبرى بين ترامب وكلينتون، وبين البريكسيت البريطاني والإتحاد الأوروبي، وبين “لا” اليونانية وحزمة المساعدات الأوروبية، هو السبيل للتحرر من “الوعي الزائف”، وكسر الدائرة التي تحصرنا بين قطبي خيارات مفجعة، “كلاهما أسوأ”، مثل الأسد أو داعش أو الفاشية أو النيوليبرالية وغيرها.

لا يقدم لنا الكتاب على المستوى العملي-السياسي سوى تلك الدعوة للاستفاقة من الوعي الزائف، إلا أن الناقد والروائي البريطاني، سيلف ويل، في مراجعته  للكتاب في جريدة “الغارديان”، يذهب أبعد، مستعيناً بالمزحة الأكاديمية الرائجة في حقل الإقتصاد، “كل شيء يعمل جيداً جداً في الممارسة العملية، لكن هل يا ترى سيعمل بكفاءة نظرياً؟”، ليخبرنا أن كتاب جيجك يقودنا إلى تنظيرات، إضافة إلى أنها غير صالحة للتطبيق، فهي أيضاً تفشل حتى في تفسير الواقع السياسي القائم. لكن بغض النظر عن نقد ويل القاسي، والذي يبدو شخصياً جداً في بعض فقراته، فإن جيجك لا يبدو بالضرورة معنياً أو مطالباً بطرح برنامج عملي أو استراتيجية سياسية. وبالرجوع إلى حوار للفيسلوف الإيطالي، جورجيو أغامبين، الذي استعار منه جيجك عنوان كتابه، يبدو مصطلح “شجاعة اليأس” معنياً بالأفكار، لا الممارسة بالضرورة. ففي رده على سؤال إن كانت أعماله تحمل منظوراً تشاؤمياً، يقول أغامبين: “أولاً على مستوى شخصي، هذا ليس صحيحاً على الإطلاق. ثانياً، فإن مفهومي التفاؤل والتشاؤم لا علاقة لهما بالفكر… فبالنسبة اليّ الفكر هو شجاعة اليأس. أليس هذا أقصى درجات التفاؤل؟”.

وكما ينطلق من اقتباس يرى في اليأس أقصى استعلامات التفاؤل، فكتاب جيجك في مجمله يكثف هجومه على الأمل. ففي لحظتنا التاريخية الآنية، كما يقول: “الحلم البديل هو علامة على جبن نظري”، لذلك “فإن الشجاعة الحقيقية هي ألا نتصور بديلاً… والاعتراف بأن الضوء في نهاية النفق غالباً هو قطار مقبل من الجهة الأخرى”. لا يقدم لنا جيجك هنا بالضرورة أطروحة “قدرية”، تقودنا للتسليم بأن ما لا بد له أن يحدث سيحدث لا محالة، بغض النظر عما يمكن لنا أن نفعله. بل إن جيجك هنا يظل متمسكاً بـ”الحتمية” كعادته، فما سيحدث، مع أنه يعتمد على القوانين العامة للتاريخ وكذا الماضي، لكنه يظل أيضاً مفتوحاً لفعل الإرادة.

فبالعودة إلى اقتباس من أحد خطابات ماركس، “الأوضاع الميؤوس منها في المجتمع الذي أعيش فيه تملأني بالأمل”، ويتضح لنا إستراتجية جيجك المبطنة، عبر ديالكتيك نموذجي لليأس/الأمل، والذي يصبح فهمها أوضح في ضوء العبارة الشهيرة للفيلسوف الإيطالي غرامشي: “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”، فمع محدودية العقل، وعدم قدرته على الانعتاق كلياً من كوابح القوى والبنى الإجتماعية المهيمنة وشراكها، فإن الإرادة هي القوة القادرة حصراً على تحفيز فعل الانعتاق.

في النهاية، فإن جيجك في كتابه، وعلى العكس من الإنطباع الأول الذي ربما حفزه هو نفسه عمداً رغبة منه في لفت الإنتباه، يبدو معنياً بالأمل عبر تعميق اليأس، وداعياً إلى التخلص من الأحلام الطوباوية الزائفة، بغية الوصول إلى مشروع سياسي أكثر “واقعية” وراديكالية في الوقت ذاته، يحفزه القبول بضراوة الخطر الداهم وإلحاحه، أو كما يقول أغامبين: “أي فكرة راديكالية دائماً ما تتبني الموقع الأكثر تطرفاً من اليأس

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى