صفحات سوريةورد كاسوحة

شرعية شعبية… لكن أيّ شرعية وأيّ شعب؟

 


ورد كاسوحة

في سوريا اليوم كثير من الضجيج وقليل من العمل. ضجيج يملأ أروقة النظام ومعارضته، من دون أن تلوح في الأفق أي إشارات على انتهائه. وعمل يبدأ بلجان صياغة قوانين الأحزاب والإعلام والإدارة المحلية ومكافحة الفساد، ولا ينتهي بلجان التنسيق الثوروية التي تناسلت من رحم الحركة الاحتجاجية، وتكاد تطابق النظام في مركزيتها وستالينيتها وإقصائها لأي رأي لا يشاطرها اقتناعها القاضي بإسقاط النظام الآن وهنا. ثمة مشكلة منهجية طبعاً في تبخيس كل هذه الأعمال واعتبارها لزوم ما لا يلزم. فالموالون والمعارضون مثابرون اليوم على اجتراح صيغ كفيلة بإخراجنا من الأزمة. هكذا يزعمون على الأقل. ومثابرتهم تلك غير انتقائية وغير خاضعة لمزاجية من لا يعجبه أن يحتكر «ائتلاف النظام والمعارضة» النطق باسم الشعب. لنتفق أولاً على أنّ المزاجية أو الانتقائية لا تمثلان في حال من الأحوال استنكافاً عن الانخراط في الحراك الحاصل في البلد. بل على العكس من ذلك، قد تمثلان في نظر البعض (وأنا منهم) انخراطاً من موقع مستقل لا يريد للبلد أن ينزلق إلى القعر الذي تدفعنا إليه اليوم مقاربات النظام ومعارضته. إذاً، لا أحد ينكر مبدئياً مثابرة المعارضة بجناحيها التقليدي والثوروي على صياغة المخارج، وكذلك الأمر مع النظام وبطانته. لكن الدينامية الداخلية التي يشتغلان عليها كلّ من موقعه تكاد تكون بلا أثر في ظل تكالب قوى الاستعمار الجديد (أميركا، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا) وملحقاتها في دول الخليج (قطر والسعودية والإمارات و… إلخ) على مصادرتها وإلحاقها بقطار الثورة المضادة. وأيّ محاولة لإغفال هذه الوقائع ستفضي حتماً إلى سيناريوات كارثية مماثلة لما يحصل اليوم في ليبيا، أو لما حصل بالأمس (ولا يزال) في البحرين. كان ممكناً أن يتوسّل المرء مقاربة مماثلة في الفصل الأول من الأزمة، حين كانت التدخّلات الخارجية غير ظاهرة بما فيه الكفاية، لكن مع تواترها الهستيري اليوم، تغدو أي محاولة لعزلها عن الدينامية الداخلية في موضع الشبهة، إن لم يكن أكثر. طبعاً لن أدّعي أنّ هذه المقاربة المستقلة تمثل شريحة كبرى في المجتمع السوري اليوم، ولكنّها على الأقل لا تزعم أنّها تمثل رأي الأغلبية الغالبة من الشعب، كما يفعل النظام، وكما تفعل المعارضة أيضاً. من يعرف أصلاً ماذا يريد هذا الشعب؟ ولماذا هذا التكالب على النطق باسمه من جانب «ائتلاف النظام ومعارضته»؟ قبل بضعة أيام فقط، دعا برهان غليون الشعب السوري إلى تجاوز انقساماته وحساسياته الطائفية والفئوية، والالتحاق بالاحتجاجات الشعبية. كلّ ذلك من أجل ألا تبدو سردية «الثورة» ناقصة وغير مكتملة. وهذا يعني أنّ الرجل (وهو من القلائل الذين حافظوا على رصانتهم واستقلاليتهم، تجاه الخارجين الاستعماري والنفطي) يستشعر نقصاً ما في هذه السردية. هنا يقع المرء على تناقض أساسي في خطاب المعارضة. أنت تعرف أنّ شرعية تمثيلك للشعب ناقصة ومتآكلة تماماً كشرعية النظام (مع حفظ الفارق طبعاً)، لكنّك تمتنع عن إشهار ما تعرفه على الملأ، وتكتفي بدلاً من ذلك بدعوة الشعب إلى مدك بشرعية إضافية. نحن هنا إزاء حالة فريدة من الإنكار، بدأت مع النظام واحتكاره لكل السرديات الممكنة، وها هي تستمر اليوم بأشكال مغايرة مع المعارضة بأجنحتها المتعددة. كيف يمكن خطاباً متناقضاً كهذا أن يقنع أغلبية السوريين بجدواه، وبكونه يمثل «البديل الوحيد الممكن» لخطاب النظام؟

لا يبدو أنّ هذا السؤال يشغل المعارضة اليوم. وهذه مشكلة حقيقية على المعارضة أن تحلها قبل أن تستبطن خطاب النظام عن «الشرعية» و«تمثيل كافة أطياف الشعب» وباقي الرّطانة الفارغة. فهذا الاستبطان هو بالضبط ما سيوصل المعارضة إلى الحائط الذي سبقها إليه النظام. من كان يتخيل قبل أربعة أشهر أنّ شرعية النظام ستتآكل على هذا النحو السريع، رغم كل «شبكات الأمان الإقليمية» التي حاول أن ينسجها حول نفسه. المعارضة اليوم تواجه الامتحان ذاته، مع فارق بسيط، هو أنّها لا تملك شيئاً ملموساً تقدمه لهذا الشعب حتى الآن. بلى هي تملك ما لا يملكه النظام: خطابها الأخلاقي. خطاب لا تستطيع المعارضة إيصاله إلى من تدّعي أنّه جمهورها، لأنّها خارج السلطة منذ عقود. ما هي الخيارات المتاحة أمامها إذاً؟ حتى الآن لا يوجد إلا خيار وحيد: الاكتفاء بالتنظير والنضال الميداني، ريثما تفضي الاحتجاجات إلى نتيجة، وينطلق قطار الحوار. وفي الأثناء، تعمل على استقطاب من لم تقنعه حلولها بعد. ومن هنا تحديداً تبدأ المشكلة، أي من المكان الذي تعتقد المعارضة أنّه «ملعبها المفضل». طبعاً هو ليس كذلك، لكن «سردية الانتفاضة» التي تتبناها المعارضة بسذاجة مطلقة، ومن دون تمحيص، تفترض العكس. والعكس هنا يفيد بأنّ من لم ينضم إلينا بعد، هو إما خائف أو متردد. هو ذاته الخوف (والتردّد) الذي تمليه اعتبارات طائفية وأقلوية (علوية ومسيحية ودرزية) حاسمة في وضعنا السوري. اعتبارات لا تزال خارج منطق الاحتجاجات التي يطغى عليها لون طائفي أكثري (سنّي طبعاً). واللافت أنّ الإنكار المسيطر على المعارضة هو إنكار لهذا البعد بالذات، ولامتداداته الإقليمية والدولية التي لم تعد خافية على أحد. راقبوا الأعلام التركية التي باتت ترفرف على الكثير من البيوت اليوم. هل لهذا السلوك دلالة تتجاوز دلالة تضامن تركيا (الانتهازي دائماً) مع ضحايا الاحتجاجات؟ لا أحد يجيب، أو إذا شئتم لا أحد يناسبه أن يجيب. لا النظام الذي لا يزال يتوسّل رضى الباب العالي (ماذا يعني امتناع وليد المعلم في مؤتمره الأخير عن توجيه نقد إلى تركيا، رغم إلحاح بعض الصحافيين عليه في ذلك؟)، رغم كلّ التدخلات التركية الوقحة في شأننا الداخلي، ولا المعارضة التي لا يبدو أنّ الامتدادات الإقليمية «للانتفاضة» قد دخلت قاموسها أصلاً. يتضح من ذلك أنّ «مذهبة» الاحتجاجات الآخذة بالتوسع لن تجد في الداخل السوري من يفكّكها، إلا بعض المستقلين الراديكاليين (من اليسار وغير اليسار). فهؤلاء غير راغبين في رؤية سوريا تتحوّل إلى «ديموقراطية إسلاموية» مهيمن عليها غربياً، بالاتفاق مع سلالات النفط في قطر والسعودية والخليج عموماً. وهؤلاء أيضاً هم الذين يعوّل عليهم اليوم لتصويب مسار المعارضة، ولإقناعها بأنّ المدخل إلى تلوين قاعدتها الشعبية يكون عبر إشارتها صراحة إلى الحلف الأطلسي ـــــ التركي ـــــ النفطي ـــــ الإسلاموي، الآخذ بالتبلور في مواجهة توقنا إلى الربط بين الديموقراطية والتحرّر الوطني. ومن يعتقد أنّ هنالك بعض الشطط والمبالغة في هذا التوصيف، فما عليه إلا أن يراجع ما كتبه سمير أمين (وكذلك جيلبير الأشقر في حديثه «للأخبار») أخيراً في شأن مآل الانتفاضات الشعبية العربية، وخصوصاً في بلده مصر. وما كتبه أمين في هذا الموضوع مهم جداً، لأنّه يعيد تأكيد فكرة الربط بين الديموقراطية غير الصورية (الممثلة فعلاً للطبقات الشعبية) والتحرر الوطني من الهيمنة الإمبريالية. وهو ما لا يبدو أنّ الانتفاضات الشعبية قد وضعته في حسابها، باستثناء بعض البؤر اليسارية الراديكالية في مصر وتونس.

أما في «سوريا الجديدة»، فالطريق أمامنا يبدو طويلاً في ظل هيمنة الجناح النيوليبرالي ـــــ الإسلاموي الملتحق ذيلياً بالغرب، على باقي أجنحة المعارضة السورية. من يتذكر اليوم أنّ حزبي العمل الشيوعي والاتحاد الاشتراكي قد خرجا من ائتلاف إعلان دمشق بسبب اعتراضهما على التوجه النيوليبرالي للائتلاف، وموقفه المخزي من غزو العراق؟ أين هما هذان الحزبان الآن؟ وما هو موقفهما من إمكانية انزلاق الانتفاضة السورية إلى القعر الكولونيالي؟ هنالك أصوات داخل حركة الاحتجاج اليوم لا تمانع في تكرار السيناريو الليبي في سوريا! كيف يمكن الركون إلى سردية بلهاء لا تعرف ما معنى أن يتدخّل الغرب عسكرياً في بلد ما؟ حتى وهم يعاينون المشهد الليبي المفزع، لا يكفّون عن توفير الذرائع للتدخّل الأطلسي هناك، بحجة أنّ القذافي لا يزال يمثل خطراً على شعبه. لكن عن أي شعب نتحدث هنا؟ عن شعب الشرق الليبي «المناوئ» للقذافي، أم عن شعب الغرب «المحتضن» له ولكتائبه (ما سر صمود تلك الكتائب حتى اليوم؟)؟ في ليبيا الآن شعبان، لا شعب واحد. هذا ما أراده الغرب لهذا البلد، وهذا ما يريده أيضاً لبلاد أخرى. بلاد قد تكون من بينها سوريا. ولقطع الطريق على احتمال كهذا، لا بدّ من الكفّ عن استدراج الغرب وملحقاته، للتدخل في شؤوننا. والمشكلة أنّ هذه النقطة لم تكن خلافية قطّ طوال تاريخنا المعاصر. لكنّها باتت كذلك اليوم لأسباب منها وحشية القمع الذي طال الاحتجاجات، ومنها أيضاً أنّ الرغبة في التخلص من النظام بأيّ وسيلة ممكنة لا يمكن أن تكون إلا رغبة مركّبة. رغبة يختلط فيها السياسي بالطائفي، ويبقى العنصر الطبقي هو الغائب عن هذه المعادلة. وإذا وُجِد فلكي يسوّغ البعد الطائفي، ويمنحه المشروعية ليس إلا. في هذه الحال تكفّ مشروعية المعارضة عن كونها كذلك، ولا يعود الشعب الذي يفترض به أن يمنحها هذه المشروعية شعباً. هو اليوم شعب اكتشف طائفيته فحسب.

الأخبار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى