صفحات الثقافة

شعراء الكراهية والجورنيكا العربية/ علي حسن الفواز

 

 

 

لا اعرف مدى دقة مصطلح (شعراء الكراهية) الذي اطلقه الصديق الشاعر شاكر لعيبي على شعراء فرجة الدم العربي في فلسطين وفي العراق وليبيا ولبنان وسوريا والصومال واليمن وغيرها، لكن صدقية ان يكتسب هذا المصطلح فاعليته في السياق يبدأ من اثارة الحجاج حول علاقة الشاعر بوصفه مثقفا رائيا وصانعا للوجدان مع ما يجري من رعب عربي وخذلان عربي..

فهل بات هذا المثقف اكثر رعبا واكثر خضوعا في استمراء مازوكيته عند لعبة الهروب الثقافي؟ وهل ان طغيان القوة اصبح مصدرا لصناعة المزيد من الاستلابات الثقافية التي تسحق المثقف تحت اوهامها؟وهل انكشفت جبهة المثقف اليساري والقومي والاشتراكي والديني على عري فاضح افقده القدرة على المواجهة او صناعة المشروع الثقافي الضد؟

كل هذه الاسئلة تحتاج الى مراجعة نقدية واخلاقية، وربما الى مراجعة سسيوثقافية، قبل اية مراجعة للايديولوجيا التي تركت لنا الكثير من صناديق العدم، اذ لم يعد امام هذا العدم الثقافي سوى الافضاء للتوهان، والاعتراف بالخطيئة او الهزيمة، او حتى الاعتراف بان طرق الحرير القديمة لم تعد صالحة سوى لطرق الجحيم..

كتابة المراثي والاسى لم تعد نافعة لاننا بدأنا نرثي انفسنا بافراط قبل طقوس موتنا وبعد عزاءات موتنا، ونتأسى دائما على شيوع العطب والفقد الذي نعيشه قبل مجاورة الفقدانات الاكثر رعبا، اذ بات البعض من مثقفينا المؤدلجين والمتفرجين اكثر ورطة في(صناعة حروب الفقدان الانطولوجية) واكثر تشفيا بالخراب الذي يحدث! وطبعا هذا التموضع ليس تعبيرا عن موقف ثقافي وانساني وسياسي خالص، بقدر ما يكشف عن ادلجة ضيقة الافق،وعن هشاشة في الاستعمال الثقافي، وفي صناعة السوق وترويج البضاعة الثقافية، وحتى التفكير العقلاني في(دوزنة) العلاقة مع الاخر الغربي واللغوي، مثلما كشفت عن الكثير من الكراهية التي لم تزل خبيئة تحت القميص العائلي والوطني، والراكزة في اللاوعي النكوصي، وصولا الى التماهي مع تمظهرات النزق الطائفي، والاستعانة بقاموس الفقهيات لتبرير عصابيات الموت العلني والمذابح العلنية..

لا اريد ان احدد صورة رسولية للمثقف، او اصطنع له وظيفة عابرة لـ(القومنة او الطيفنة) او حتى للمثقف الذي كثيرا ما يتورط بأمراض اليسار الطفولي التي قال عنها لينين بانها اخطر على الثورة من الاعداء انفسهم، لكني انحاز لحضور المثقف بوصفه صاحب الوعي الشقي بمسؤوليته وبأسئلته، وبحدوسه التي تتلمس مايجري عند العتبات من فجائع ومن خرابات..

هذا المثقف الافتراضي او المتخيل، هو نموذج للبطل الاخلاقي، بطل مابعد الثورة، ومابعد الايديولوجيا، اذ ستكون صورته خارج الحائط العائلي، وخارج المتحف الوطني او خارج(جميعة الشعراء الموتى) كما اعلنها وليامز روبن!

هذا المثقف الشاعر والرائي يقودنا فعلا للكشف عن حجم الكراهية،وحجم العطالة، وحجم الاوهام التي نركض في سرابها،اذ تتحول مغامرة هذا الكشف الى ما يقابل الكشف عن الخديعة اللغوية التي تورطنا بها منذ قرون، خديعة النص والفقه والتأويل، والتي عطلتنا عن الرؤيا، واكتشاف الحقل المجاور والمرأة المجاورة والاستعارة المجاورة، مثلما عطلتنا ان نكتشف شفرة الجورنيكا التي نعيش طقوسها كل يوم في زماننا العربي..الجورنيكا التي الهمت بيكاسو لان يخلّد موتاه..فهل لموتنا من يخلدهم من مثقفينا المكدسين امام المحنة والتائهين في طريق الجحيم؟ وهل لنا ببطل ثقافي سريالي او فنطازي او ثوري ليصنع لنا جورنيكا عربية، تعرّف العالم على الاعداد المرعبة لموتنا، وعلى خراب مدننا، وعلى توحش حكامنا الذين اشتروا الاوطان بفرمانات عثمانية او بانقلابات عسكرية او حتى بهبات عائلية..

الجورنيكا العربية هي اقسى دروس التعبير عن ممارسة الكراهية،وهي اقسى دروس الفرجة، واقسى مستويات الفضح عن عطالة الانتلجنسيا العربية التي لم تستطع ان تتخلص من فوبيا الحكومات القديمة، ومن لزوجة الوعي القديم، وعي الدكان ووعي الفقيه والشرطي ورجل الامن والمطارات..

محنة المدينة والثورة والهوية هي محن اشكالوية لضيق افق المثقف المحشو بقاموس الكراهية، وتعرية لعطالة دوره، ورعب استلابه ازاء التاريخ والسلطة والجماعة، وان اي شروع باتجاه المكاشفة لا يعني بالضرورة ان يظل هذا المثقف عند طقسه المازوكي في تأنيب النفس دائما، وكأنه حامل الخطيئة، او انه يتعالى على الاخرين متهما (الناس اللي تحت) كما يسميهم نعمان عاشور بكل مانتعرض له من هزائم قومية وثقافية وتنموية وحداثية، حتى بات البعض يقول ان الحداثة تعني دائما مجتمع الرفاهية، وان الفقراء كائنات (زائدة عن الحاجة) لذلك هم غير صالحين للاندماج في العولمة والميتا حداثة، هم يعيشون دائما وهم الضحية، او وهم التابع الذي يتحدث عنه هومي بابا وايميه سيزار وفرانز فانون وسبيفلاك كثيرا حول استلاب الشخصية مابعدالكولنيالية..

هذه الشخصية تعيش مركّب هذا الاستلاب، فهي لاتملك القدرة على التحرر من ذاكرة المستعمر السياسي والاقتصادي واللغوي، مثلما لاتسطيع انثربولوجيا ان تصنع انساقا للقرابات المتجاوزة لمحنة شخصيتها اللاوعية، اذ هي تعيش استيهامات الرهاب الداخلي، تبحث عن التعويض بوصفه اشباعا، وتلذذا بالحوار مع الاخر بوصفه شكلا للوجود او حتى السيطرة..واحسب ان استعادة شفرة الجورنيكا تعني الحديث عربيا عن رفض القوة الغاشمة التي يصنعها المستعمر والجنرال، والافصاح عن احتجاج الضحية على فكرة الموت العلني الذي نتفرج عليه ثقافياعبر الميديا وعبر الصورة والقصيدة والرواية في المدينة العربية المذبوحة..

السؤال هنا لا يكمن في الحديث عن نموذج العربي المنقرض كما يتهمه ادونيس، ولا في الحديث عن نموذج الهوية المقتولة والقاتلة كما تحدث امين معلوف، بل يتمثل في ضرورات الحديث عن الدعوة الى حوار ثقافي عربي، حوار مابعد اوهام الثورات، حوار مؤسسات وجمعيات ثقافية بعيدا عن اوهام التخوين والتطييف، وبعيدا عن اعادة انتاج مثقف السلطة ومثقف النقابة او مثقف المقهى او مثقف الكراهية، وباتجاه الحديث عن ضرورة المثقف المسؤول، الملتزم، العضوي، المثقف الذي يعرف اسرار شفرة الجورنيكا…

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى