صفحات الثقافة

شعريّة الحرب، بينَ التجربة وافتراضها/ ياسر اسكيف

 

 

لا رائحة المواد المُتفجّرة، ولا أصواتها، أو ضجيج محركات الطائرات في صعودها وانقضاضها، كما الأحياء المهدّمة التي تتكئ على ركامها، قد تضع مَن يعاينها ويتحسّسها في مواجهة من أيّ نوع، مع الموت. والشيء ذاته ينسحب على تأمّل مواكب التشييع وسماع عويل الأمهات والأبناء والزوجات، لمن قتلوا هنا، أو هناك. وليست مواجهة مع الموت رؤية أرتال الفاريّن والمُهجّرين، أو صور القتلى في كلّ مكان. إنما هي إعلانات عن حرب تحدثُ في الجوار، وافتقاد للشعور بالأمان الذي يتسلّل إلى أعماق الروح.

أرخت الحربُ بظلالها البغيضة. تعبيرٌ يطالُ كلّ شيء. من الانكسار الذي أصابَ أبسط الأحلام وصولاً إلى رغيف الخبز الذي بات عسيراً. ويبدو بأن هذه الظلال بيئة مثالية لظهور حساسيات جديدة في الآداب والفنون بكافّة أشكالها، وفي الشعر على وجه الخصوص. هنا أتحدث عن الضرورة، وعن الحتميّة. عن التراكم الكميّ لآثار الوحشية الذي يتجسّد في الدمار الذي يطال كلّ شيء. ولا أتحدث عن الواجب المتلبس لفرض العين الذي لا يمكنه أبداً أن ينتج المختلف وكل ما يمكنه فعله هو التدوير وإعادة الإنتاج وفق قواعد نقليّة وفقهيّة، إذ لا يمكن لفرض العين أن يكون بريئاً من القبليّة، حيث تحضر المعيارية الأيديولوجية ويصبح الواجب الإنساني مُنشطراً في معناه كأنما هناك إنسانيتان أو أكثر. وهذا ما يمكن أن يتلمّسه أي متابع مُهتّم، ويسهّلُ أمر متابعة كهذه مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصّة فيسبوك، من دون أن نقلّل من شأن بعض المواقع الثقافية المُختصّة.

حساسيات

غير أن تلك الحساسيات، وإن حفّز على بروزها ونموّها، خلال الأعوام الخمسة الماضية، ذات الظاهرة، فإنها تراوحت في التعاطي مع هذا المُحفّز، بين حرب تحدث فعلاً كتهديد مُباشر للذات، وبينها كحرب تحدث على الشاشات. وأقصد تماماً ما يمكن تحسّسه من فرق بين التجربة كحدث يتمدّد باتجاه النص الإبداعي ويسكنه، وبين افتراض التجربة، تأسيساً على فعل المشاهدَة من موقع الآمن. والأمر هنا يقترب من عيش التجربة وإعادة إنتاجها نصيّاً، وبين افتراضها ومن ثمّ عيشها في اللغة. وهنا لا أقصد تماماً الكتابة من قلب المعركة، كما يُقال، إذ هي نادرة تلك الأعمال، أو حتى النصوص المُفردة، التي كتبها مقاتلون، أو على الأقل مَن يعيشون في دائرة الخطر، وربما يعود هذا إلى أنّ الانغماس كليّة في الموضوع، والتحفّز الدائم لحماية الذات، قد يجعل ما عداهما أموراً لا تستحق الاهتمام.

ولعلّ من أهم السمات التي قد تظهر للقارئ، الذي دعوناه مُتابعاً ومهتمّاً، هي أنّ تلك الحساسيات، في كمّها الأعظم، تبدو وكأنها لم تتشكل كثمرةٍ من ثمرات الحرب، بقدرِ ما شكّلت حرباً نصيّة بالاستناد إلى مُفرداتٍ إخبارية وإعلامية تلعب فيها الصورة الدور الرئيس. وهذا أمر يسهلُ تفسيره كما أرى بكون أكثر الأصوات التي اشتغلت بحدّة وتطرف على موضوعة الحرب هي لكتّاب لم يعايشوا الحرب، إذ كانوا خارج سوريا قبل اندلاع الحرب بزمن طويل، أو أنهم غادروا سوريا، نحو مناخات الحريّة الإبداعية التي كانوا يحلمون بها وكانت عزيزة عليهم، مع الرصاصات الأولى من هذه الحرب. ويظهر هذا الأمر جليّاً في أن مُفردات التجربة الشعرية، وآليات جريانها وتفاعلاتها هي ذاتها ما قبل الحرب، والذي حصل هو إلباس تلك المُفردات زيّاً عسكرياً، وجعل التجربة تجري في خندق، أو تتعثر بلغم، فيما التفاعلات أسيرة عناصر مأخوذة من كتب الكيمياء البلاغية.

في الحرب تتجرّد الأشياء من المعاني والوظائف التي كانت لها من قبل، وبالتالي تنبني علاقاتها وارتباطاتها وفق منطق جديد، وقوانين طارئة. فالشجرة، على سبيل المثال، لا تعود شيئاً أخضر يُزهرُ على وعد بالثمر. بل يُصبحُ من مواصفاتها المتراس والمتكأ ووقود التدفئة وأداة الإعاقة والاعتراض. ولا يبقى للأعشاب المزهرة من معنى يتعدّى صلاحيتها كمكمن أو مخبأ، ومثلهما الأبنية والتشكيلات التضاريسية. كلّ شيء يتغيّر. كلّ شيء. وينسحبُ الاشتباه بالخصم على كلّ موجود. فيما تختلط وتلتبث الجهات التي قد يأتي منها الموت.

حيوات زائدة

غير أن الحرب لا تكفّ عن تفضيض زجاجها كحيوات زائدة عن حاجة الموت. لتمضي عبر انعكاساتها إلى ما يتعدى ساحتها العمليّاتية. وهنا يحصل الالتباس بين الحياة الافتراضية التي تعرضها الميديا من وجهة نظر العارض، وتلك التي تحدث فعلاً ويختبرها مَن تلفحهُ نارها، وتعضّهُ أنيابها. إذ يمكن القول بأن الحرب، وهي تلقي بظلالها الجافّة الثقيلة على ما حولها، انما تحيك هامشها بالطلقات الفارغة. فالتفريغ الذي يحصل للطلقات سيسعى المتحاربون كي يحوّلوه إلى امتلاء، وذلك لا يتحقّق إلا بتفريغ يواكبهُ لجانب ما من الحياة. وهذا ما لا تتمكن الكاميرا وضروب المونتاج من التقاطه وتحسّسه بالطريقة التي تخصّ الأحياء الذين تتضاءل الحياة من حولهم.

وبهذا فغنى النص الأدبي، كأحد المكوّنات التي تتشكل على هيئة تداعيات يفرضها التفريغ، يتمثّل في مدى اكتنازه بلا منطقه المتفلّت من منطق الحرب والمُنقلِب عليه. إذ لا يكفّ منطق الحرب عن تحييد كل منطق آخر. إنه محاولة لإلغاء أي ممكن آخر، وفرض التبعات على أنها ضرورات سببيّة لا رادَّ لها، وأنها الحدوث الوحيد الذي عليه الوجود. وبالتالي فالنص الذي يتخلّق كمجاراة وصفيّة لما يجري ويحدث، حتى وإن تضمّن موقفاً، لا يعدو عن كونه إملاءً بائساً لمنطق الحرب، وتسويقاً رخيصاً لهذا المنطق. وبالتالي مجازاً بائساً لحقيقة بائسة.

ومنهُ يمكن القول بأن الغالبيّة العظمى من النتاجات الأدبية بقيت أسيرة منطق الحرب، إذ لم تعط ِ للتجربة مسافة تمكّن من التخلص من أدوات الحرب. وبالتالي جاءت نصوصاً حربيّة وليست تجربة في الحرب. أي أن الحرب تمثّل عنصراً بنيوياً قيمياً في النص. فالحرب ليست موضوعاً ذا وجه واحد هو الوجه القبيح المكروه والمرفوض. بل كأنما لها وجهان كأية عملة. فالنص المُحارب هو نص مُصطفّ وبالتالي يقف في جبهة ضد أخرى تبعاً لدالّته الأيديولوجية.

وهذا لا يعني أبداً بأنهُ لم تتخلّق بعض النصوص، وربما بعض التجارب، التي تؤكدُ التقاطاً لخفاء ما، وعيشاً لحالة الامتلاء التي تحدث مقابل التفريغ. وترتسمُ ملامحُ الحساسية الجديدة هنا، كخطوط تتدرّج في الوضوح، بمقدار تحسّسها للهامش الذي تحيكه الحرب بفوارغ الطلقات، بعيداً عن الامتلاء الوهميّ الذي يتمّ بالكلمات، والذي اصطلح البعض على تسميته شعر الثورة، أو الشعرية الثورية، إلخ… فشعر كهذا، أو شعريّة كتلك، إنما لا تفعل شيئاً سوى إعادة إنتاج مُفردات هي المُفردات عينها التي أنتجها الطغيان وكرّسها في المنظومات الأدبية التي تحرس (الحقيقة) وبهذا فقد ندرت التجارب، أو النصوص، التي توقفُ الحرب، أو تهدّد استمرارها، باختراقات، أو انزياحات جمالية، تمتلك منطقها الجمالي كتضادّ مع منطق الحرب. غير أن المؤسف في الشأن السوري، وكما ألمحنا سابقاً، أن الموقف الجمالي من الحرب، إلا في القليل منه، لم يكن جماليّاً، وبالتالي افتقر إلى روح التجاوز، مراوحاً إلى الآن بين أن يكون شعراً حربيّاً كما يفعل، أو شعراً فرضت الحرب وجوده كضرورة جمالية قد تُسهم في إيقافها، أو عدم تكرارها، إن توقفت.

أخيراً عليّ القول بأن ما سبق ليس بحثاً نقديّاً تطبيقيّاً، بقدرِ ما هو محاولة لتلمّس المتغيّرات الجمالية في ظلال المتغيّرات التي تنتجها وحشيّة الحرب. ولأن الظواهر تُحاك من مُفردات التمايز والاختلاف، التي بالكاد تُرى في البداية، فمن الطبيعي أن يكون تحديد وتوصيف البداءات أمراً عسيراً، ويحتمل الكثير من الخطأ في الأحكام، التي قد تصوّبها الوقائع اللاحقة. وما سبق هو مجرّد مدخل لمحاولة التلمّس، والإشارة ِ إلى، ما يتبدّى نصيّاً في النتاج الشعري السوري في السنوات الخمس الأخيرة.

(كاتب سوري)

السفير الثقافي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى