صفحات الثقافة

شعرٌ يعبر الهوَّة/ أمجد ناصر

 

 

يحضر شاعر ألمانيا الكبير غوته، لدي شخصياً، في مناسبتين. الأولى مع أنطولوجيا لأصوات شعرية فلسطينية وألمانية، ومرة أخرى في أنطولوجيا ثانية، تتعلق برؤى الديوان الشرقي للشاعر الغربي في أزمنتنا الراهنة! حسن، لا بأس، فالأشياء تتدافع، غالباً (أليس دائماً؟) وفق إرادة الواقع. وليس هناك واقعٌ يطبع ضفتي “العالم القديم” مثل هذه الحروب التي تدور في الميدان والأفكار والخطط السياسية وتلك المضادة لها. يحضر غوته في سِفره الشعري الضخم الذي يُقرأ، مثل المكتوب، من عنوانه: الديوان الشرقي للشاعر الغربي. لكن الشرق ليس شرقاً دائماً هنا والغرب ليس غرباً دائماً أيضاً. فهناك “روحٌ” تعبر البحر. تعبر الهوّة. تجسِّر القطيعة، وتحدث ذاك التماس الكهربائي الذي تحدثه الأنفس عندما تتلاقى. لا بدَّ أن هذا حدث على مدار تاريخ البشرية عابراً المصلحة، محرّكة الصراعات بين الأفراد والأمم. فلا يمكن أن تفسّر المصلحة، وحدها لا شريك لها، تاريخ البشر وعلاقاتهم بعضهم ببعض. هناك ما يعبر المصلحة ولا أقول يسمو عليها. فالسموّ، لغةً، من السماء، أي مما ليس له علاقة مباشرة بأرض البشر، وربما شفَّتْ، هذه المفردة، عن جوهر ديني. هل كان واقع غوته يدفعه إلى معانقة شرقٍ لم يعرفه سوى بالكلمات؟ هل هو وصلٌ مقصودٌ بين ضفتين متواجهتين؟ ليس تماماً. ففي أيام غوته، كانت الحروب تمزق أوروبا. وكانت فكرة مبادئ الثورة الفرنسية تسقط تحت حوافر خيول نابليون، فخاب أمل غوته بنابليون الذي أراد أن يعيد سيرة الغازي، النموذج، الإسكندر المقدوني.. السيف الذي يفتح طريقاً للفكرة، والخيول التي تظل تعدو حتى تقع صريعةً فتخلفها خيول جديدة. لا شك أن مشاعر متناقضة تناوبت على غوته حيال قائد أُعجب بشخصه، فيما أفعاله تقطر منها دماء الأوروبيين الذين قضوا في مغامرة الجنرال الكورسيكي نحو قمة المجد. تلك علاقةٌ معقدة، دائماً على الأغلب، بين المثقف والزعيم، ولم يكن غوته استنثاءً من غواية سحرية السلطة وتصادمها، في الوقت نفسه، مع الأخلاق.

فهل كان الشعر طريق غوته للهرب من الاستحقاقات المباشرة للواقع الدامي؟ قد يكون. ربما يمكننا أن نفهم ديوانه الشرقي، بالنظر إلى الظرفية التي رافقته، ولكن هذا مجرد جانبٍ واحد من الدوافع العميقة التي وقفت وراء إنتاجه هذا العمل الفارق في زمنه، وربما الذي لا يزال يحمل هذه العلامة حتى يومنا هذا. هناك حاجة الشعر نفسها في أن يكون. وحاجة النفس إلى الشعر. فكأن الشعر، والحال، ضرورةٌ نفسيةٌ قبل أن يكون ضرورةً يمليها الواقع، وضرورة فنية قبل أن يكون مجرّد “مرآة” للأحوال العامة. لماذا الشرق وليس غيره؟ العالم “القديم” لأناس القرنين، الثامن عشر والتاسع عشر، لم يكن سوى ذلك الذي يقع شرق المتوسط. كانت هناك عوالم أخرى، بالطبع، ولكن ما هو على تماسٍ مباشرٍ، ملتبسٍ، مغوٍ، مثيرٍ للأخيلة والجراح، فهو الشرق العربي والإسلامي. وهذان اختلطا، في أذهان الأوروبيين (وربما لا يزالان) حتى ليصعب التفريق بينهما. لذلك، لم يكن هناك حد قاطع عند غوته بين حافظ وامرئ القيس، بين الشعر الفارسي والشعر العربي، ما داما يصدران من “الشرق” نفسه.. وهو شرقٌ غير استشراقي، فهو ليس قائماً على صور نمطية. ليس شرق حريم وغلمان وسلاطين وكسل حياتي ومعرفي. وعندما يحضر غوته اليوم فهو لا يحضر بترسانةٍ من التنميطات، بل بقدرٍ كبير من معرفة الآخر.. أو الرغبة في التعرف إليه في أقصى تجلياته. هناك حاجةٌ غربيةُ إلى غوته اليوم.. فهو تصوّر شرقاً قادماً من الشعر والآثار الروحية والأخلاق. هل هذا هو الشرق؟ أو كل الشرق؟ كلا. لكن، عندما نفكّر بما هو عميق فينا، وبما يعبر الحاجة (التي لا بدَّ منها ولا تسفيه لها) فنحن نقترب من المسعى الإنساني للجم الوحشي، التوسعي، الاستعلائي، الأناني، في جلبتنا البشرية. هذا كلامٌ مثالي جداً. صحيح. لكن لا بدّ، أحياناً، مما هو أبعد من أنوفنا وسيقاننا.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى