إياد شربجيصفحات سورية

شكراً…لكن لن أصمت..!!

 


إياد شربجي

مذ بدأت أنشر تعليقاتي وآرائي على ما يجري في سورية على الفيس بوك قبل شهرين، وعبارات من قبيل (هدّي – خفف – دير بالك) تقفز في وجهي وتداهمني كشرطي مرور يتلطّى لي عند زاوية كل شارع… في البداية كنت أدلف إلى شارع جانبي حيث يصعب التقاطي، وهذه ملَكة تُخلق مع السوري وتعيش معه، لكن ما إن تسارعت الأحداث وصرت مضطراً لسلوك شوارع رئيسية وبسرعات عالية تواكب الحدث حتى علا صوتي قليلاً، فتحوّل عبوري إلى مشقّة مضنية مع هذا الكم من الإشارات والصافرات والمحاذير… المشكلة كانت تكمن دائماً في أن معظم من يريدني أن أهدّئ سرعتي الفيسبوكية إنما يفعلون بدافع المحبة والخوف على مصيري، وهذا أقسى ما يمكن احتماله من شخص مثلي يزعم أنه يكتب لأجل الناس فإذا بهم هم من يُخرسوه، أمام هذه المعادلة تقف مرتبكاً ماذا يمكنك أن تفعل؛

كيف تستطيع الردّ على من يحتفظ لك بمحبة نقية كبياض الثلج بجدال عقلاني حول الحقوق والواجبات ومفهوم الوطن والمواطنة؟

كيف تبين له أن البوح هو موقف، وهو غاية، وهو طريق سيوصلنا جميعاً إلى الحرية التي نريد؟

بل كيف تجرؤ أن تقول له في وجهه بأنك ربما تراه متخاذلاً صامتاً، وفوق كل ذلك محبِطاً؟

بالأحرى كيف لك أن تقنعه بجدوى ما تفعل؟ وهو الواقع بشكل لحظي تحت تأثير الخبر العاجل ومشاهد الحصار والقتل والاعتقال التعسفي والإشاعات المرعبة التي تنمو وتزدهر في هكذا بيئة؟

حقاً لا تستطيع لومه، الأمر بالنسبة إليه أشبه بمقاومة العين للمخرز، وهذه المقاومة خاسرة في النهاية، وذلك بالنظر إلى ثقافة بناها على مدى عقود تراثٌ شعبي تكوّن تحت الخوف والرعب، فلم ينجب إلاّهما، وزرع في عقولنا سلسلة مخزية من القناعات ليس أوّلها “امشي الحيط الحيط وقول يا ربّي السترة”، وليس آخرها “اللي بيتجوز إمي بقلو عمي”….فكان المولود مواطناً سورياً مشوّه الخلقة والخلق، يستميت ليعلن الولاء والاستسلام الكامل أمام كل أشكال السلطة، ويرضى بالخضوع حتى أمام موظف صغير…مواطن يتملّكه الرعب الفطري وكل ما يريده من الوطن هو الحفاظ على أمنه الشخصي فحسب، مواطن أناني بات مقتنعاً بأن اهتمامه يقتصر على نفسه وعائلته وليذهب الجميع إلى الجحيم، لكنه في نفس الوقت سيكون مستعداً دائماً لممارسة دور الحذاء الوطني، والخروج بمسيرات عفوية، والتصفيق لكلام لا يفهمه ولا يعنيه…وحتى تقديم روحه ودمه لأجل فرد واحد…لا الأمة.

أحد أخوتي يخبر أمي البسيطة بفحوى ما أكتب، فترمي نفسها على الهاتف لتقول لي، ورجفات صوتها تنفض كل خلية في جسدي: “برضاي عليك يا إمي أسكت… مالنا قدهم”. أفتح فمي لأقول لها: “من هم ومن نحن يا أمي؟!!” فأتذكر كيف قضت ليلة عيد الأم الأخيرة وهي تبكي وتسبّح وتدعو ربها علّها تسمع خبراً يطمئنها عن ابنها المختفي منذ أيام لديهم… أعيد حساباتي قليلاً وآخذ الرضى وأصمت.

زوجتي التي تشاركني كل همومي واهتماماتي وتوافق على كل ما أفعل، تقول لي في لحظة ضعف: “فكّر بابنتا… ما شفت شو عملوا بالأطفال؟” أتذكّر مشهد تلك الفتاة التي قُنصت برصاصة في رأسها في برزة وهي على شرفة منزلها، فأركض إلى غرفة ابنتي ذات السنة ونصف وأنتزعها من بين ألعابها لأعصرها بين يدي وأقبّلها، وبعد هذا المشهد الذي لا يعني لها شيئاً، أتماسك… أنظر في عينيها فأرى فيهما استجداءً طفولياً يمزّق القلب. أرتعد خوفاً على مصيرها وألعن مخترع الفيسبوك ألف مرة.

أجلس لأتحدث مع صديقي. وقبل أن نهمّ بالكلام حول وضع البلاد يغلق جهازه الخليوي وينزع البطارية وحتى بطاقة الـ (sim). وبعد أن يُنهي كامل استعداداته الأمنية للحوار نقضي بقية الوقت بالنقاش حول الإمكانية التقنية والتكنولوجية الفعلية لقدرة الأمن على التنصت على الموبايل وهو مطفأ أو منزوع البطارية..!!

أتركهم… أعود إلى نفسي. أتجاهل كل هذه الإحباطات المتوقعة، والتي درّبت نفسي على مواجهتها. أفتح  الحاسوب لأكتب تعليقاً ما، فتندلق في وجهي عشرات نوافذ (الشات) لتقول لي: “دير بالك”، “أنا برأيي خفف التعليق تبعك”، “أنت العين عليك بلاه التعليق… احذفه”، فأستسلم لقراءة هذه التحذيرات والرد عليها، وإغلاق نوافذ الشات.. وعندما أنتهي غالباً ما تكون الفكرة التي أردت قولها قد صارت خارج مجال راداراتي.

إنه صراع يومي أعيشه بين الغريزة والعقل، بين الأمل والواقع، صراع كان لا بد من حسمه أخيراً لأنتقل إلى الخطوة التالية، أعرف رغبتي… لا أريد أن أكون على الهامش في مثل هذه اللحظات وأنا الذي حلمت وعملت وتمكنت من أن أكون صحفياً ليتكلّم عن الناس ولهم. لا أريد أن أقتل كلمة قد تنقذ طفلاً من الجوع أو شاباً من السقوط. لا يمكنني أن أخرس أمام هذا المشهد الإعلامي الوطني الكاذب وهو يفضّ بكارة ضميري عشرات المرات في اليوم…. وحتى لو فشلتُ في كل المهمات السابقة فإن أقل شيء يمكنني عمله هو إشعار (البعبع) بأنني لا أخاف منه.

مع يباسة بالرأس حيناً، وقناعة بما أفعل حيناً آخر، اتخذت قراري بالمضي قدماً. الدم وصل إلى ركبي وثمة من يريدني أن أصمت، لا لن أصمت… سأفعل ما يجب فعله، سأتابع، فبلدي يسكن في كل تفاصيلي ولن أسمح لأحد أن يصادر حلمي بسورية أجمل. أكتب باسمي الصريح وصفتي المعروفة ولا أختبئ خلف هوية أو لقب لا يستطيع رجال المخابرات معرفة صاحبه. أعارض الخطأ وأواجه الظلم على مسؤوليتي وبالمجان دون أن أقبض فلساً واحداً من بندر والحريري. أتحدث من قلب الشام ولا أستقوي بغريب أو جنسية أجنبية على وطني. أنتظر من يريد اعتقالي ليأتي ويأخذني من منزلي أو مكتبي… لن أختبئ أو أتوارى عن أنظاره… بل سأعطيه عنواني التفصيلي على الهاتف ليأتي إلى حيث أنا، حتى أنني سأذهب إليه على قدمي إن طلب هو ذلك. وعندما أصبح بين يديه وتحت سوطه سأصرخ في وجهه كحرّ يعرف معنى أن له حقاٌ يجب أن يأخذه….سأقول له بأنني مواطن مثله ولست لاجئاً، ولا عميلاً ولا مخرباً ولا مندساً ولا سلفياً … وسيزيد من عيار عنفه على جسدي لأنني تحدّيته، لكنه في النهاية سيتعب، حينذاك سأمسك بيده وأنظر بعينيه المخدوعة لأقول له بكل صدق: أنت أخي، وشريكي في الوطن، وسأسامحك…ثم سأضمّه وأبكي على كتفه غبطة وليس ألماً…بعد ذلك فليفعل ما يشاء، لم يعد يهمّني الأمر.

اعذروني جميعاً. أحبكم. أشكركم. أتفهّم أسباب تخوّفكم على هذا العبد الفقير… لكنني لن  أصرف مزيداً من الوقت بعد اليوم  في الرد عليكم واتقاء شرّ ما تخيفوني منه.

اعذريني أمي، رضاكِ على رأسي. تفهّميني زوجتي، فأنت تعرفين حقيقتي، سامحيني يا ابنتي، إنما أفعل لتعيشي حياة أفضل. أصدقائي أحبكم… لقد تحررت من قيودي ……… لن أصمت.

الفيس بوك

2 أيار 2011

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى