صفحات سوريةعقاب يحيى

شكراً للثورة.. أحييتنا..


عقاب يحيى

شكراً لها الثورة السورية في أنها صنعت الأمل، وضعت حلم أجيال وأجيال بالحرية والكرامة بين الأعين فأحيّت الوطنية السورية. فجّرت مخزون العقود من الكبت، والتهميش والظلم والامتهان والرعب والإخضاع والتغييب، والتوق للحرية، وإذ بسورية الخصب، والحضارة تستفيق بكل خلاياها، وتدخل الثورة البيوت كلها باعتزاز المنتمين إليها الذين يتنفسونها شوقاً، وأملاً..

المعارضة السورية التي أفنت عمرها في مقارعة النظام، والتي لم تستطع الاقتراب من أهدافها المطروحة بفعل تفاعل العاملين: العام الذي يخص دور النظام، والخاص المتعلق بانعكاس ذلك الفعل عليها ودخوله بامتزاج على خط الأزمة البنيوية.. تنشّطت وقد حقنتها الثورة وشبابها بدماء جديدة، وفرضت عليها التحديات أن ترتقي إلى مستوى المطلوب. والمطلوب كبير يفوق القدرات الذاتية، خاصة مع طغمة استثناء تستثمر الوضع الخاص لسورية لإجهاض الثورة قتلاً ودماراً وتهديداً للوحدة الوطنية، واستدعاء ـ بأفعالها ـ للتدخل الخارجي كي تستخدم ذلك ذريعة لمزيد من القتل والدمار.

كبيرة، عظيمة الثورة السورية بخصائصها، ومفاعلاتها وما أحدثته في كل الميادين، وهي فعلاً ثورة الاستقلال الثاني لأن هدفها الرئيس الذي لم تحد عنه: انتزاع الحرية والكرامة، وإقامة النظام الديمقراطي، بل التأسيس للدولة المدنية الديمقراطية التي هرسها نظام طغمة الاستبداد والفئوية والفساد وأدخلها قمقمه الفئوي، الطغياني، النرجسي، التوريثي، النهبي، والتي ستنهض على أنقاضه في جميع الميادين، وبما يتجاوز السياسي إلى الاقتصادي والاجتماعي والفكري، وبالأساس من ذلك: الحريات الفردية والعامة، والمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين السوريين بغض النظر عن جنسهم ودينهم ومذهبهم وقوميتهم.

نعم كانت الثورة مفاجأة المفاجآت بالنظر إلى خصوصية اللوحة السورية لجهة ما أنزله نظام الطغمة من نكبات ببلدنا وشعبنا ضمن معادلة واحدة قام عليها نظام الطاغية: الإخضاع بالقوة حتى التصفية، وتغييب الوعي في لجاج الفساد والإفساد المنهجين. سلاحه في ذلك أجهزة أمنية أخطبوطية امتدت في الجسد السوري من الرأس حتى أخمص القدمين، وراحت تنخر في الضمير والأخلاق لتحويل البشر إلى تابعين ومرتزقة وخونة لأخلاقهم وضمائرهم وعقائدهم، وتسليط النافذين من العائلة والمقرين والطائفة على الجيش للتحكم في كل مفاصله وضبط إيقاعه على حركة التأبيد، والتوريث الذي اشتلع بقايا الجهورية وكيان الدولة السورية وأدخلها بالإرغام بيت العائلة، والفئوية المحظية.

ـ ونظراً لطبيعة نظام الطغمة وما فعله بالمجتمع السوري عبر العقود، ولموقع بلدنا الجيوسياسي واستراتيجي تكتسب الثورة السورية طابع الاستثناء، ليس كثورة للاستقلال الثاني وحسب، بل لتأثيرها الكبير في المحيطين: العربي والإقليمي، وارتباط وقائعها وحصائلها بتلك الأبعاد، ذلك أن انتصارها سيكون بمثابة الزلزال المباشر على الأوضاع في لبنان والعراق، وصولاً لإيران، وامتداداته في عموم الإقليم، وعلاقة قيام نظام ديمقراطي بفلسطين، والكيان الغاصب، كون فلسطين كانت على الدوام القضية المركزية الأولى للسوريين بمختلف منابتهم واتجاهاتهم، ناهيك عن قضية الجولان المحتل وواجب تحريره وعودته للوطن الأم.

ـ نظام الطغمة ولمن “يتفاجأ” بممارساته الدموية التي تصل حدود ارتكاب فعل الإبادة، والجرائم المنظمة يجمع الفئوية المعجونة بالحقد، نرجسية الطاغية المؤسس، وهو تعامل مع الآخرين كخدم وعبيد مرفهين طالما ينفذون المطلوب منهم، حيث أطلق لهم عنان النهب والامتيازات، وهو يفيّشهم ويؤرشف لهم سجلات مليئة بموبقاتهم وعهرهم متعدد الأشكال، وتحويلهم إلى تبّع لا يملكون سوى التسبيح بحمد ولي النعمة، في حين تنظر كلط الطغمة للشعب برمته، بأحزاب المكعارضة، بالشخصيات ورموز الوطنية الوطنية السورية نظرتها للبعوض، بل لعدو يجب استئصاله، وهو ما كانوا يتبجحون به عن (جنتهم ونارهم).. ولم يتخيل وريث العته والجريمة أن مواطناً سورياً واحداً يمكن أن يتجاوز (الخط الأحمر) لما هو فوق بساطيرهم السميكة الموضوعة على رؤوس وكرامة وحرية وشرف المواطن.. فكيف بأطفال درعا الميامين يدشنون الثورة، ويطلقون شرارتها، وإذ بدرعا الشجاعة، ودرعا الأيقونة تفاجئ مل حساباتهم وتحمل الراية.. وإذ بالثورة السورية تتمرد على كل حسابات أجهزة الأمن وتقديرات الطغمة، ومن هنا كان الردّ العنيف الصادر عن عقلية الاستكبار، والاستهتار، وهو النتاج الوحيد الذي تقذف به مصانع الطغمة من الشبيحة والقناصة، وأجهزة الأمن، وصولاً إلى توريط الجيش السوري وتشويه تاريخه (ليست هي المرة الأولى التي يزجون بالجيش في صفقات مشبوهة: لبنان والعراق)، والدفع بمحورين: الفتنة والمؤامرة.

ـ نظام الطغمة الدموية مستعد لاقتراف كل جرائم الإبادة وأنواع الجرائم المنظمة دون تهويل أو مبالغة، ويمكن أن يذهب ـ كما هو حاصل ـ إلى حدّ دكّ المدن بالصواريخ والمدفعية والراجمات، وحتى بالكيماوي، وارتكاب القتل الشنيع، وعمليات التطهير، والاغتصاب، وتوجيه كلابه المسعورة المدربة للنهش باللحم الحي للمواطنين وارتكاب أفظع أنواع التمثيل، والتقصيب، ليس كتعبير عن مستوى الحقد والاحتقان وحسب، بل وأيضاً لزراعة التخويف والترويع، والإخضاع بالقوة، ولا مانع من التهجير القسري، أو النتيجة لآلاف المواطنين كي ينتشي المجرم بما يقوم به من تطهير، مع التأكيد على أن استخدام الطائفية الملونة بأصبغة مقاومة التدخل الخارجي، والمؤامرة هي الحصان الأخير الذي يمتطيه لإغراق البلاد في حرب يدفع إليها ابناء الطائفة العلوية في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، كما يستقدم بذلك التدخل الخارجي، بما فيه العسكري.. كي يعطي لنفسه مبررات أقوى لفعل القتل وارتكاب المجازر.

ـ إن الثورة السورية التي لخصت أهدافها بأنها ثورة الحرية والكرامة، وصاغت شعاراتها المعبرة: واحد واحد واحد الشعب السوري واحد، وكرّست في أسماء يوم الجمعة جوهر الوحدة الوطنية، انطلقت سلمية، سلاحها حناجر الشباب والصدور العارية التي واجهها نظام الطغمة بكل أنواع الفتك، الأمر الذي فرض عليها الانتقال إلى طلب الحماية الدولية لآرواح المدنيين، ثم الممرات الآمنة، والمنطقة العازلة، وبالوقت نفسه فإن رفض عديد الوطنيين من أفراد الجيش السوري توجيه اسلحتهم إلى صدور شعبهم، وتمرهم على الأوامر وانشقاقهم أوجد واقع الجيش السوري الحر، وأدخل طرفاً جديداً في المعادلة السورية بدأ بحماية التظاهرات السلمية، وكفّ يد الشبيحة والقناصة عن ممارسة فعلهم الدموي ثم تطور الظاهرة إلى تشكيل عسكري يمارس فعلاً مقاوماً ترنو إليه أعين وآمال السوريين أن يكون درعهم وذراعهم وإطارهم العسكري الوحيد الذي تناط به مهام الدفاع والمقاومة، وحصر عمليات التسليح به، وتنظيم مهماته ودوره وعلاقاته بما يتناغم وقوى الثورة في الحراك الثوري، والأطراف السياسية، خاصة المجلس الوطني باعتباره الإطار الأوسع والأكثر تمثيلاً للمعارضة السورية.

ـ إن تردد الوضع العربي والدولي في التعامل الفاعل بالشأن السوري يخفي مجموعة من الحقائق عرّتها الثورة السورية بجلاء. فالوضع العربي المتهاوي، والعاجز عن قيادة مبادرة قادرة على الفرض، ودعم وإنقاذ الشعب السور من المذابح المتواصلة، فتح المجال للتطلع نحو الهيئة الأممية، والدول الأجنبية.. التي بدورها تعاملت مع المسألة السورية وفقاً لحسابات مصلحية وسياسية لا علاقة لها بكل دعاوي حقوق الإنسان، والدفاع عن الحياة البشرية، حيث تختلط في تلك الحسابات مفاعيل عديدة على صعيد كل دولة، وبشكل عام، وتظهر البصمة الصهيونية جلية برفضها سقوط نظام ضمنته عقوداً في تأمين جبهة الجولان، وفي عمليات التفتيت القائمة على أسس مذهبية، والذي سيكون أكثر تأميناً لأمنها ومشاريعها كلما ضعف وتهاوى، وكلما دمر سورية، وأوصلها لحافة الحرب الأهلية.

ـ لا شك أن القوى الدولية الفاعلة تملك رؤى وقرارات بما يخص النظام السوري المجرم، وهي عملياً تسعى لإسقاطه لكن على طريقتها، وبما يخدم حساباتها واستراتيجياتها، فيما أطلقت عليه ـ قبل أشهر ـ بسياسة الدحرجة، التي تعني غرق الوضع السوري في القتل، والتطييف حتى يصبح التدخل الدولي بكل أشكاله مطلباً شعبياً ملحاً، وشبه جماعي، وطريق الخلاص الوحيد لإنقاذ حياة المواطنين، عندها تقرر تلك الدول الشكل والطريقة والتوقيت، وبانتظار ذلك سيكون على الشعب السوري ـ الوحيد ـ دفع فاتورة غالية جداً، واستنهاض كل قيم الكبرياء والشجاعة والإيمان كي يواصل مقاومته وثورته، معتمداً على قواه الذاتية، وتطوير وسائله المتاحة لتعديل ميزان القوى لصالحه، حتى وإن كانت إيران وحزب الله وقوى أخرى عراقية جزءاً من منظومة وقوى نظام الطغمة، كما تشير إلى ذلك عديد الوقائع.

ـ هذه اللوحة التي ترسمها الثورة السورية في ذكرى عامها الأول تبرز فيها التحديات كبيرة درجة الخطورة، وبالوقت نفسهتطرح على جميع فئات الشعب السوري، وبالأخص منهم قوى الحراك والشباب الثوري، وقوى المعارضة جميعها: القديمة والجديدة والقادمة العمل لتجاوز حواجز الفرقة، والتشتت واللقاء ضمن أطار واحد، أو صيغة تنسيقية من شأنها أن تزجّ بكل الإمكانات في خندقة المعركة الرئيس وليس في هوامشها أو حوافها، أو في تشتيت الجهود، وبلبلة اتجاه البوصلة الواضح.

إن الحراك الثوري وقد تجاوز مرحلة (الفطام) وأبرز قيادات شابة مؤهلة للقيادة، تملك وعياً نوعياً متطوراً، ويكتسب خبرات كبيرة من الميدان.. مطالب قبل غيره بوحدة الصف والأداة نحو إطار واحد للثورة، يمكن أن يكون تحالفاً وتنسيقياً يضافر بين كل الجهود ويوجهها نحو تحقيق السياسات والمهام اليومية والمتوسطة، ويتطلع غلى المستقبل بروحية بناء الدولة المدنية الديمقراطية. كما أن المجلس الوطني وقد اتسع وتوسع ليشمل نسبة كبيرة من قوى المعارضة، فإنه مطالب أن يقود حركة توحيدية كبرى لضمّ معظم أطراف المعارضة في صفوفه، بما فيها النخب المناضلة والشخصيات الوطنية المعروفة والمشهود لها بمواقفها ونزاهتها، كخطوة أولى للتفعيل والمأسسة وتعزيز الروح الجماعية، والديمقراطية في انتخاب المؤسسات، وفي التعامل مع جميع مكوناته الفكرية والسياسية.

ـ الثورة السورية تطوي عامها الأول في مرحلة انعطافية شديدة الحساسية، الأمر الذي يدعو جميع المؤمنين بها إلى وضعها نصب أعينهم، وليس أي شيء غيرها، وإعلان ولاء القسم لبذل كل الممكن في سبيل نصرتها..

ـ مع ذلك، ومع الهجمة الطغيانية لعصبة الإجرام، ومحاولتها استباق الزمن لإرجاعه بقوة القتل.. فالنظام يتآكل، ويتهربش ويضعف كل يوم، ويستحيل أن يستمر.. بينما يلوح فجر الحرية والخلاص في جثامين الشهداء، وإرادة الشباب المصمم. في عيون الأرامل والثكالى، وفي حناجر ودعاء المؤمنين…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى