صبحي حديديصفحات الرأي

شمشون غزّة وأوديب إسرائيل/ صبحي حديدي

 

 

طبقاً لرواية “العهد القديم”، سفر القضاة، 16: 23 ـ 30، شهد معبد داجون، في غزّة، قيام العبراني شمشون بن منوح الدني بتنفيذ أوّل عملية انتحارية في التاريخ، بعد أن استردّ قوّته حين طال شعره ثانية؛ وكان قد فقدها وصار عاجزاً، بسبب نجاح دليلة الفلسطينية في الإيقاع به، وحَلْق سبع خُصَل من شعره.

الرواية ذاتها تقول إنّ بني إسرائيل أغضبوا الربّ، فدفعهم للفلسطينيين أربعين سنة؛ وأنّ امرأة منوح، العاقر، ولدت شمشون ليكون الطفل الإعجازي الذي سيتولى تخليص إسرائيل من أعدائها. ومثل كثير من أقاصيص التوراة، تجرّدت حكاية شمشون من صفات الأسطورة، وصارت واقعة تاريخية مسلّماً بها، واكتسب بطلها سمات ملحمية سوبرمانية، تضاعفت على مرّ الأزمنة في الواقع، وليس خلال الأحقاب القديمة وحدها.

وفي كتابه “عسل الأسد”، يتناول الروائي الإسرائيلي المعروف دافيد غروسمان شخصية شمشون، من زوايا عديدة جديدة، ومختلفة عن المألوف، ولعلها مخالفة للتنميط الراسخ في التوراة. إنه أقرب إلى أوديب التراجيدي، صريع الأقدار المحتومة المكتوبة سلفاً، منه إلى رجل الخوارق الجبّار الذي انتزع العسل من جوف الأسد، وأعمل في أهل غزّة بطشاً، وأحرق أكداسهم وزروعهم وكرومهم. وغروسمان يبرع تماماً في التفكيك النفسي لشخصية شمشون، من خلال تحليل متأنٍ مستفيض لخطّ صراعه المركزي بين المصير المسطّر سلفاً، والمسار الذي تختطه الأهواء الذاتية، والوقائع القاهرة.

ولا يفوت غروسمان أن يتوقف مراراً عند كلّ تفصيل توراتي يمكن أن يُقرأ على نحو مختلف أو مخالف، فيحمل قسطاً من الدلالة حول الراهن. وضمن هذه الروحية، ولأنه من أوائل القائلين بأنّ الإمعان الإسرائيلي في نكران الحقّ الفلسطيني سوف يسفر عن جملة تشوّهات عضوية، قد تهدّد وجود إسرائيل ذاتها؛ يخلص غروسمان إلى مآل صاعق يسير على لسان شمشون، في السطر الأخير من الكتاب: “فلتَمُتْ روحي كما عشتُ على الدوام: وحيداً، دون أن أكون قريباً حقاً من أيّ روح، وسط الغرباء. فلتَمُتْ روحي، إذاً، وسط الفلسطينيين”!

قراءة إسرائيلية أخرى معاصرة، أتحفنا بها الحاخام الإسرائيلي إليتسور سيغيل، الذي دعا إلى تنفيذ عمليات انتحارية يهودية ضدّ الفلسطينيين، عملاً بمبدأ “التضحية” الذي استنّه شمشون، وليس اقتداء بالعمليات “الانتحارية” التي ينفذها الفلسطينيون. وفي مقال شهير بعنوان “التضحية بالنفس من أجل الربّ”، كتب الحاخام: “الانتحار في زمن الحرب حلال إذا كان هدفه نصرة إسرائيل، والمتطوّع لأداء مثل هذه العمليات سوف يكون في عداد الأبطال والشهداء”. وللإيضاح، كان سيغيل الحاخام الأشدّ تطرّفاً في مستوطنة تابواه، التي تجثم على إحدى هضاب الضفة الغربية، وتقطنها أغلبية من غلاة اليهود المتدينين، وبينهم بصفة خاصة أتباع الحاخام الأشهر مئير كاهانا.

الأب جون ل. ماكنزي ـ الأمريكي، أحد كبار باحثي “العهد القديم”، وبين قلّة طرحت أسئلة شكّ عميقة حول عدد كبير من الروايات التوراتية، الأمر الذي عرّضه مراراً لتهمة الهرطقة ـ يردّ الحكاية إلى مصافّ الأسطورة المضخمة، والمتضخمة. إذْ كيف يمكن لمعبد هائل، يتسع سطحه لثلاثة آلاف رجل وامرأة، أن يقوم على عمودين لا ثالث لهما، تفصل بينهما مسافة ذراعَيْن فقط؟ وبذلك، يستنتج ماكنزي، فإنّ حكاية شمشون ليست سوى واحدة من الأقاصيص التي لا بدّ أنّ المخيّلة الشعبية العبرانية قد ابتدعتها نكاية بالفلسطينيين.

.. وهذه حال سندها الأركيولوجي، أيضاً! فقد أعلنت بعثة البروفيسور أرين مئير، من جامعة بار إيلان الإسرائيلية، أنها عثرت على معبد فلسطيني قرب تلّ الصافي (تيل زافيت، كما أسمته إسرائيل بعد تطهيره عرقياً من الفلسطينيين، صيف 1948)؛ يعود إلى الأحقاب التوراتية، شبيه بالمعبد الذي تصفه حكاية شمشون، مع فوارق كبرى: الموقع ليس في غزّة، ولا على مقربة منها؛ والمعبد لم يتهدّم بسواعد بشرية بل نتيجة زلزال هائل، قوّته 8 درجات في مقياس ريختر، ضرب المنطقة قبل 900 سنة للميلاد!

وفي كلّ حال، للصهاينة ـ ابتداءً من “المعتدل” غروسمان، مروراً بـ”الوسطي” مئير، وانتهاءً بـ”المتشدد” سيغيل ـ أن يلتمسوا الكثير من تجليات التهديم والتخريب والتدمير التي تمارسها، ضدّ غزّة، قاذفات إسرائيلية هي اليوم… شمشمونات الأحقاب العبرانية المعاصرة!

موقع 24

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى