خولة حسن الحديدصفحات سورية

شهادة من مدينة ثائرة..تلبيسة هي كل المدن

 


د. خولة حسن الحديد

تقع مدينة تلبيسة شمالي محافظة حمص السورية بحوالي (13) كم، وإلى الجنوب من مدينة الرستن بعشرة كيلو مترات

وتحتل المرتبة الرابعة في قائمة مدن محافظة حمص بعد تدمر والقصير والرستن ، وتمتد على جانبي الطريق الدولي الذي يصل سوريا من حمص إلى مدن الشمال السوري ، و تتمركز المدينة على تل يعتقد بأنه يعود إلى الألف التاسع قبل الميلاد، وقد أسفرت التنقيبات الأثرية العشوائية عن وجود آثار هامة في تلبيسة تنوعت ما بين قطع نقدية وفخارية وزجاجية وتماثيل رخامية تعود إلى أزمنة متعددة، وعلى هذا ا التل الأثري تتموضع “قلعة تلبيسة”، هذه القلعة بناها محمد آغا الجندي عام /1794/ م الذي عينه والي الشام متسلماً لمدينة حمص ورئيساً لحكومة قلعة تلبيسة، وكانت القلعة مركزاً لعائلة الجندي التي حكمت المنطقة منذ عام /1735/ م، ويقول بعض الباحثين وعلماء الآثار أن تكون تلبيسة هي نفسها مدينة “أبزو” التي كانت مشهورة بصناعاتها النسيجية التي ورد ذكرها في مراسلات تل العمارنة ووثائق مملكة إيبلا، وقد منحها موقعها الاستراتيجي على طريق القوافل التجارية أهمية كبيرة واعتمد التجارمنذ القدم على أبناء تلبيسة لحماية الطرق التجارية من اللصوص الذين تعترض قوافلهم ، كما إن لها تاريخ ثوري كبير في مقاومة المغول عند دخولهم بلاد الشام وغيرهم من الغزاة ، ولعبت دوراً حضارياً متميزاً في مملكة قادش القديمة .. هذا الاستعراض التاريخي الذي ارتأيت بأنه لابدّ منه لإلقاء الضوء على هذه المدينة السورية الثائرة والتي أثبتت أن حاضرها يتسق مع ماضيها الذي يكذب كل الروايات التي أشاعها إعلام النظام السوري عن سكان هذه المدينة منذ انضمامهم إلى قافلة الانتفاضة السورية .

ينتمي سكان مدينة تلبيسة في غالبيتهم إلى الطبقة الوسطى ، ويعتمدون في معيشتهم على الزراعة كونها تعتبر من أخصب مناطق سوريا بمجاورة سهولها الفسيحة لنهر العاصي، بالإضافة إلى العمل في مجال الشحن البري الداخلي والخارجي إذ تشكل المنطقة ثقل كبير في هذه الحركة لامتلاك عدد كبير من سكانها للشاحنات التي تعمل على الخطوط الدولية وفيها عدد من الشركات في هذا المجال ، وعن هذين القطاعين الحيويين إضافة إلى موقع المدينة أيضاً انبثقت العديد من المهن التي وفرت لسكان المدينة فرص حياة كريمة قد تكون أفضل من غيرها من القرى المحيطة بها ، كما إنه شكل في الوقت نفسه دخول أهالي المدينة في حالة من الإحباط واليأس من الفساد المستشري الذي يلمسونه يومياً في كل مفاصل المؤسسات التي يراجعونها بحكم طبيعة أعمالهم ، وقبل اندلاع حركة الاحتجاجات في سوريا كان يمكن لكل من يحتك بأبناء المدينة أن يلمس موجة عارمة من الغضب على درجة الفساد والتعامل السيء الذي يتعرضون له أبناءها وخاصة بعد أن تولى محافظ حمص الذي أقيل في بداية الاحتجاجات شؤون المحافظة وما مارسه على أهلها من قمع ومحاربة لهم في مصدر رزقهم وما فرضه من ضرائب وتنقلات إدارية و شروط قاسية لفرز العقارات وحركة البناء والتعمير.

بدأت حركة الاحتجاج في “تلبيسة” في الخامس والعشرين من شهرآذار/ مارس الماضي ، أي بعد عشرة أيام على اندلاع الاحتجاجات في مدينة درعا ، وقد صدم أبناء المدينة بالقمع والجرائم التي ارتكبت في درعا وهم العارفين بأهلها وشهامتهم وكرمهم وذلك بحكم عملهم على خط الشحن البري الواصل إلى الأردن مروراً بدرعا ، وانسجاماً مع أخلاقهم النبيلة وما عرف عنهم من نخوة وفزعة هبوا نصرة لأهالي درعا ، وكانت تلبيسة أول منطقة تخرج للتظاهر في محافظة حمص ، وتركزت هتافاتهم في أول مظاهرة بنصرة درعا .وانفضت المظاهرة دون مشكلة تذكر ، في الجمعة التالية لهذا التاريخ وبعد أن أوغلت آلة النظام العسكرية والأمنية تنكيلا بأهالي درعا ، انتفض أهالي تلبيسة معلنين أنهم كلهم أبناء درعا وطالبوا بوقف المجازر هناك وترافق ذلك مع صدام مع الشرطة ورجال الأمن أدى إلى استشهاد شاب من أبناء المنطقة ، لم يستوعب الشباب ما حدث وكانت هذه مقدمة لثورة عارمة استنفرت أهالي المدينة والمدن المجاورة ، وبدأ الحراك الشعبي كل يوم جمعة حتى نزلت دوريات من رجال الأمن السوري وحاصرت المدينة التي تأجج غضبها بعد استشهاد امرأة وزوجها وأبنائهما الاثنين ( أطفال) في مدينة بانياس ، وقبل جمعة الجلاء بيوم أي في الساس عشر من نيسان/ إبريل الماضي استشهد شاب من المدينة على يد رجال الأمن الذين كانوا يجوبون شوارع المدينة بطريقة استفزازية ويطلقون النيران بشكل عشوائي أدى إلى إصابة واستشهاد شاب من أبناء المدينة على باب منزله .. خرج الآلاف يوم الجلاء 17 نيسان من أبناء المدينة والقرى المجاورة لتشييع الشهيد ..خلال عودتهم من التشييع فوجؤوا بوجود

عدد من الدبابات ورجال الجيش والأمن السوري على أطراف المدينة من مدخلها الجنوبي على الطريق الدولي ..سارع عدد من وجهاء المدينة ورجال الدين إلى مكان تمركز العسكر وسألوا عن سبب تواجدهم ..أخبروا إنهم وجدوا لحمايتهم ..من ماذا ؟؟ ومن طلب ذلك ؟؟ سأل أبناء المدينة الذين طلبوا منهم التراجع إلى الخلف خوفاً من الاحتكاك مع شباب المدينة الذين يعبرون الآن الطريق خلال عودتهم من تشييع شهيدهم كانوا في غضب عارم ..ووعدوا بعدم إطلاق النار وبالتراجع ..وبينما لم يبتعد عنهم الوجهاء الذين وعدوا بما وعدوا سوى ما يقرب من ثلاثين متراً بدأ إطلاق النار على الجمع الغفير من شباب المدينة وحدثت مجزرة حقيقية استشهد على إثرها أربعة شباب وجرح العشرات وحصلت مواجهة مع رجال الأمن بسبب إصرارهم على خطف الجرحى واعتقالهم ومنعوا سيارات الإسعاف من الدخول لنقل الجرحى إلى المشافي المجاورة وتم علاج الجرحى في البيوت ومستوصف جمعية البر الموجود في المدينة على يد أطباء من أبنائها ، وهبّ أبناء القرى المجاورة وأبناء أحياء حمص القريبة لنجدة أهالي تلبيسة إثر نداءات الاستغاثة التي وجهت عبر الهاتف المحمول وعبر وسائل الإعلام وهذا ما منع توسع المجزرة وانكفاء رجال الأمن والجيش .

في اليوم التالي خرج وزير الخارجية وليد المعلم ليلتقي بسفراء الدول الغربية في دمشق ليكرر الرواية التي أوردها الإعلام السوري عن وجود عصابة مسلحة في “تلبيسة” تقطع الطريق الدولي وتطلق الرصاص على رجال الأمن والناس المدنيين وإن أهل المدينة استنجدوا بالجيش والأمن للقبض على العصابة ،وقيل إنّ من قتل في المدينة هم من أفراد العصابة ..؟؟ بالطبع هذه الرواية زادت من غضب الأهالي وجعلهم يعودون للتظاهر مع توالي أنباء المجاز المشابهة في درعا ودوما وكل مكان تظاهر فيه الناس وكان أهالي مدينة الرستن قد تظاهروا في هذه الأثناء وحطموا تمثال الرئيس حافظ الأسد وهو أكبر تمثال في سوريا وأحضروا رأس التمثال إلى تلبيسة في إشارة إلى تضامنهم مع شهداء المدينة وأهايها ..وهنا تخلى الناس عن مطالبهم الأإصلاحية وبدأت شعارت إسقاط النظام تعلوا ؟؟ حتى يوم الجمعة العظيمة التي شهدت مجزرة خلال فض اعتصام لعشرات الآلاف من أبناء المحافظة في ساحة الحرية( الساعة الجديدة ) ،وكان أبناء مدينة تلبيسة ممن شاركوا في ذلك الاعتصام..منذ ذلك اليوم حوصرت مدينة تلبيسة وقطعت عنها كل وسائل الاتصال الأرضية والخليوية وقطعت عنها الكهرباء ، وفي جمعة التحدي تعرض أهلها المحاصرين لمجزرة شبيهة بمجزرة الجمعة العظيمة سقط فيها عدد من الشهداء من أبناء المدينة والقرى المجاورة الذين باتوا ينضمون لأهالي المدينة للتظاهر من ( تير معله والغنطو..وغيرها) ،وهو اليوم ذاته الذي شهدت فيه مدينة الرستن مجزرة مشابهة استشهد فيها العشرات وتم القيام ببيت عزاء جماعي في مدينة الرستن لشهداء المدينتين .وتوالت حركة الاعتقالات بين أبناء المدينتين والقرى المجاورة وبقي الحصار مفتوحاً ودخلت الدبابات كل أطراف المدينة وتجولت في شوارعها وقصفت خزانات المياه التي تصل منها مياه الشرب إلى منازل الأهالي ، وقصفوا عدد من البيوت والمحلا التجارية منها محل لإسطوانات الغاز لو انفجر لأدى إلى كارثة في الحي ، وأصبح الدخول والخروج إلى المدينة على الهوية وتخوفاً من اقتحام رجال الأمن للمدينة تم ترحيل غالبية النساء والأطفال خارج المدينة إلى المزارع والبساتين المجاورة ، في حين واصل شباب المدينة اعتصاماتهم اليومية وتظاهراتهم الليلية وسجلوا حضوراً لافتاً في جمعة الحرائر بعد انضمام المئات من الإخوة المسيحيين إلى المظاهرة قادمين من قرية مجاورة ( أم شرشوح) وهم يحملون الصليب معانقاً الهلال في مشهد أسقط كل ادعاءات النظام عن وجود عناصر سلفية ومتطرفة أو مسلحة داخل المدينة وفي أسبوع الحرائر هذا يواصل شباب المدينة تظاهراتهم الليلية، والتي أصبح واضحاً عليها حسن التنظيم الوضوح في الشعارات التي تؤكد على الوحدة الوطنية ووقف القتل ، كما أنشؤوا صفحة على الفيس بوك تنشر أخبار المدينة وغيرها من أخبار وتتواصل مع الآخرين ، إضافة إلى انضمامهم إلى تنسيقية المحافظة والعمل على توحيد الجهود. بقي أن نذكر إن الشباب قدموا العشرات من الصور والفيديوهات التي استندت إليها الفضائيات لفضح أكاذيب النظام السوري ، وكل هذا صور بظروف بالغة الصعوبة تحت زخ الرصاص وأمام الدبابات كما كان يظهر في الصور ،كما إنهم يخاطرون بأنفسهم يومياً بالخروج من المدينة والعودة عبر طرق التفافية ليضعوا أخبارهم على الانترنت كون الاتصالات ما زالت مقطوعة حتى الآن ، إن هؤلاء الشباب يبدون بطولة خارقة في مواجهة الرصاص الحي والدبابات والتعتيم ،وصبر منقطع النظير مقابل حملات التشويه البغيضة والاستفزازية التي دأب النظام على نشرها كان آخرها خروج أحد الضباط من أبناء المنطقة والذي استشهد ابنه خلال التظاهرات ليعلن على قناة “الدنيا” بأن ابنه قتل من قبل مسلحين حين كان يمنعهم من قطع الطريق الدولي ،وطبعاً بعد أن افتدى والوطن وسيد الوطن بدمه ودم أبنائه ؟؟ لكن كل ذلك لم يوهن من عزيمة هؤلاء الشباب الذين فاجؤوا العالم بمستوى وعيهم ورقي شعاراتهم وإصرارهم على سلمية حراكهم ومنحه بعداً وطنياً شاملاً وما انضمام أبناء طوائف ومناطق أخرى إليهم إلا دليل على حسن خطاهم وسيرهم نحو الهدف المنشود مع إصرار يومي على مواصلة الطريق مهما بلغت التضحيات، موجهين رسالة إلى النظام بأنه لا عودة بعد اليوم ..ولا “حماه “مرة أخرى في سوريا ..وتلبيسة ليست حالة سورية فريدة بالتأكيد ،بل هي صورة كل المدن السورية الثائرة .

كاتبة سورية

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى