صفحات الحوار

شهلا العجيلي: أعشق الواقعية … وحاولت تقديم هويّة مدينتي الرقّة

 

 

هند عبد الحليم محفوظ

شهلا العجيلي روائية وناقدة سورية تقيم في الأردن؛ تعمل أستاذة للأدب العربي في الجامعة الأميركية في مدينة مادبا الأردنية، وصلت روايتها «سماء قريبة من بيتنا» إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لهذا العام، وهي تعول على الدور التنويري للمثقف في محاربة التطرف. من أعمالها الروائية «عين الهر»، «سجاد عجمي». ومن أعمالها النقدية «الرواية السورية… التجربة والمقولات النظرية»، «الخصوصية الثقافية في الرواية العربية»، «مقالات في نقد الثقافة، ولديها مجموعة قصصية بعنوان «المشربية».

هنا حوار معها.

> ماذا يعني وصول «سماء قريبة من بيتنا» إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر؟

– كنت أقول في الأيّام الأولى لإعلان القائمة القصيرة إنّ الوصول يعني قرّاءً أكثر، وتفاعلاً أعمق لنصوصي مع النقّاد والمختصّين، والآن بدأت ألمس نتائج ذلك. فعدد القرّاء الذين يتواصلون معي شخصيّاً غير مسبوق، ونفاد الطبعات الأولى الثلاث كان سريعاً جدّاً، وعدد الدعوات التي توجّه إليّ من جانب المنتديات ومجموعات القراءة في زيادة مستمرّة، ويدهشني أنّ أفراداً صادفتهم في أماكن قصيّة من العالم، أو في أماكن لا تتوقّع أن تجد فيها قرّاء لروايات عربيّة صادرة حديثاً، قرأوا روايتي وناقشوني في التفاصيل. لكن ما يمنحني الغبطة ليس الانتشار فحسب، بل الوصول إلى طبقات النصّ المتعدّدة، وتفسيرها، وتأويلها، وبعبارة أكثر بساطة: وقوع القرّاء في حبّ الرواية، والذي أدّى إلى البحث عن أعمالي السابقة والاهتمام بها، فضلاً عن أنني تلقّيت العديد من عروض الترجمة إلى لغات مختلفة، وهو أمر في غاية الأهمية.

> كيف ترين الأعمال الخمسة الأخرى التي وصلت إلى القائمة القصيرة؟

– بوصفي ناقدة ليس من السهل أن أطلق أحكاماً نقديّة على أيّ نصّ من غير علامات قرائيّة. كلّ ما يمكنني قوله هو أنّني سعدت بوجود «سماء قريبة من بيتنا» بين تلك الأعمال.

> ما سرّ انجذاب القرّاء إلى تلك الرواية في رأيك؟

– قد يعود ذلك إلى غنى الفضاء النصيّ بالخصوصيّات الثقافيّة ضمن خطاب روائيّ إنسانيّ مفتوح على تاريخ العالم، وليس تاريخ المنطقة فحسب. النصّ تابَع الخبرات والتجارب الإنسانيّة التي عايشها الأبطال، والتي صنعت تفاصيل حيواتهم، كما أنّه قدّم رؤيات متعدّدة حدّ الصراع، ولم يتخندق وراء الإيديولوجيا، كما لم يستعد المدوّنات الرسميّة للتاريخ، بل لم يولِها أيّة أهميّة، هذا ما جعلها تبدو خاضعة للمساءلة والنقد بطريقة سرديّة عفويّة، ويمكن أن أضيف حضور الحكايات المتعدّدة. قد يعود ذلك أيضاً إلى الرؤية الملحميّة في الكتابة، المحمولة على لغة طفوليّة بسيطة ونزقة، ومتحرّرة من أسر الشعريّة المعتادة، ولعلّ هذه الطريقة البسيطة في السرد، والمعتمدة على الحكاية باتت نادرة اليوم في ظلّ الأساليب المعقّدة الناتجة إمّا عن ضعف في اللّغة وإمّا عن ضعف في الحكاية. ذلك ما يجعلني أحجم شخصيّاً عن إكمال قراءة العديد من النصوص. كما ألاحظ أيضاً أنّ بعض زملائي من النقّاد بات متشكّكاً في أدواته المعرفيّة نتيجة ذلك، فكثرة النصوص الرديئة تفسد الذائقة، وتسيء إلى الأساليب اللّغويّة.

> لغتك مضمّخة بالشاعريّة… ماذا تقولين؟

– لعلّك تقصدين الشعريّة. أعتقد بأنّ الشعريّة في نصوصي الروائيّة لا تتأتّى من علاقة اللّغة باللّغة، فأنا لا أقسر اللّغة على المجاز، لكنّني أعتقد ببلاغة النوع، فلغة الرواية لابدّ من أن تكون سرديّة، والشعريّة تتأتّى من الموقف، أو اللّحظة التاريخيّة أو الحكاية أو المرجعيّة أو المشترك الثقافيّ. تلك هي الشعريّة التي حكى عنها أرسطو في «فنّ الشعر»؛ إذ أشار إلى أنّ إتقان الصنعة حالة شعريّة، فحركة الفلاحات في الحقول إذا كانت منسجمة ورشيقة وموقّعة فهي تدخل في إطار الشعريّة، وكذلك اللغة الروائيّة بالنسبة إليّ تأتي شعريّتها من مصدر آخر ليس لغويّاً بالضرورة. لذلك حينما ترجمت بعض من فصول «سماء قريبة من بيتنا» إلى لغات كالإنكليزيّة والألمانيّة، لم تفقد ألقها لأنّها لم تفقد بلاغتها الحكائيّة.

> ما الذي يغريك بالعمل الأدبيّ؟

– تغريني أعمال الآخرين فأقرأها، وأشتغل عليها، بدافع المعرفة، والحكاية، والعمق الإنساني الذي يوصلني إلى ما لم أصل إليه سابقاً، أو يذكّرني بقضايا الوجود ليواسي ضعفي البشريّ أو يشاركني أسئلتي الصعبة، لا ليعظني، وعلى كلّ ذلك أن يكون محمولاً على لغة سليمة. وذلك أيضاً ما أحاول أن أفعله في نصوصي، فأنا أكتب الرواية كما أحبّ أن أقرأها.

> كيف ترين الصراع بين الناقدة والروائيّة في داخلك؟

– ليس صراعاً، لعلّهما قوّتان تعضد إحداهما الأخرى، فآليّة النقد تغاير آليّة الإبداع، وتقبع في مكان مختلف من الدماغ، لكنّهما يلتقيان في مفاصل مهمّة للغاية، ومعرفة هذه المفاصل تدعم كلّاً من الناقد والمبدع. لا يعني النقد معرفة المناهج والمدارس فحسب، أو توظيف أقوال النقّاد في العمل الإبداعيّ، أو استخدام لغتهم، بل يعني معرفة الأساليب، وتاريخ الكتابة الأدبيّة، ومزاج المرحلة، وما يجب أن يقال وما لا يجب أن يقال، وما يستحسنه المتلقّي وما ينفر منه، والنماذج الجماليّة، وعلاقتها بالنماذج الفنيّة، وبذلك تكون المعارف النقديّة مكسباً للمبدع. لا شكّ في أنّ الكتابة الإبداعيّة تحتاج إلى أن تهبها نفسك ووقتك ولغتك، وكذلك الكتابة النقديّة، لذلك لا يمكنني الشروع في مشروعين إبداعيّ ونقديّ في الوقت ذاته، وربّما هذا ما يجعل كتابتي تتناوب على مشروع نقديّ، ثمّ روائيّ، وهكذا.

> كيف تصنّفين رواياتك… ألاحظ أنّها قريبة من الواقعيّة وبعيدة منها في الوقت نفسه؟

– أنا من عشّاق الواقعيّة بوصفها مدرسة فنيّة في التصوير، ولا أحب التطرّفات في الكتابة مثلما لا أميل إلى الوقائعيّة. لا بدّ للخيال من أن يأخذ دوره في العمل الأدبيّ، وإلاّ فلنكتب على غلاف العمل مفردة أخرى غير، رواية. اللعبة الواقعيّة تكمن في صناعة شخصيّات لم نكتشفها، أو لم تعطها حياتنا القصيرة فرصة لتظهر وتساهم في التغيير، لقد عطّلها عائق ما، لكنّ ظهورها يغني الواقع، ويكشف جزءاً من ملفّاته السريّة، وتمنحنا معرفتها غنى إنسانيّاً، بشرط أن تكون غير ناتئة عن منطق الزمان والمكان حيث قرّرنا أن نضعها. تلك مشاركة فاعلة من الكتّاب في عمليّة الخلق والتنوير، وأنا أحبّ أن أقرأ الواقع وأرسم له خرائط بديلة. منذ طفولتي كنت أبحث عن طرق بديلة، وأبواب يمكن أن نفتحها كي لا نصطدم بالجدران المصمتة، وطالما فتحتها لنفسي ولمن حولي. أصدقائي دائماً يأتون إليّ وهم مطمئنون بأنّني أمتلك الحلول لمشكلاتهم التي يرونها عصيّة على الحل. بصراحة أنا لا أفعل شيئاً يساعدهم سوى تقليب الاحتمالات، حتّى لو كانت بعيدة جدّاً لدرجة وسمها بالعجيب أحياناً لكنها قيد، حتى الوقوع، وهكذا هي رؤيتي لرواياتي.

> لماذا العودة إلى فترة الخلافة العبّاسيّة في روايتك «سجّاد عجميّ»؟

– «سجّاد عجميّ» هي رواية المكان الأوّل بالنسبة إليّ، ولابدّ لكلّ كاتب من رواية عن المكان الأوّل. حاولت تقديم الهويّة الحقيقيّة لمدينتي الرقّة التي كانت إحدى حواضر الدولة العبّاسيّة، حيث نشأتُ بين أطلال ذلك التاريخ وحكاياته، ولعلّ أكثر كتب الفكر وتاريخ الأدب التي كوّنتني تنتمي إلى تلك المرحلة، فذلك هو عصر التمازج بين الثقافات في إطار الحضارة العربيّة الإسلاميّة، بكلّ ما يعنيه التمازج من حِراكات ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة أثّرت في نشوء الفرق الفكريّة والدينيّة، وشكّلت العمارة والمورفولوجيّا والفنون. وقد وجدت نهايات القرن الثالث وبدايات القرن الرابع الهجريّ تشبه بطريقة ما حياتنا اليوم: انفتاح عولميّ مع الكثير من التطرّفات، وحروب الهويّات، وقد اتخذت فكرة مصحف فاطمة حيلة فنيّة لأحكي من خلالها عن حقّ الناس في العيش بسلام وكرامة ومحبّة، عن حقّهم في أن يتمتّعوا بفكرة الوطن، والتنمية، والعدالة، والفنون، والحبّ، لا يختلف في ذلك من عاش منهم في القرن الرابع الهجريّ عن الذي يعيش في القرن الحادي والعشرين للميلاد. في «سجّاد عجميّ» قمت ببحث معرفيّ حول فنّ نسج السجّاد، ثمّ بحثت عن تاريخه، الذي ينطوي على الكثير من السريّة، والعلاقة بالحرف واللّون والعبادة، وفيه أيضاً تاريخ أسود له علاقة بالاستغلال والسخرة والعبوديّة، وغالباً هو فنّ نسائيّ، لكنّني جعلت البطل أو صانع السجّاد رجلاً ذا خصوصيّة بالنسبة إلى الهويّة، والوضع الاجتماعيّ، والمزاج العاطفيّ. الفنّ الآخر المقابل في الرواية هو صناعة الخزف من جانب إحدى الشخصيّات النسائيّة، إذ تشتهر الرقّة بصناعة الخزف في تاريخها القديم، والذي يعود للألف العاشر قبل الميلاد، بسبب نوع التربة التي يصنعها ماء الفرات. لكن هذه الصناعات تمّ تهميشها بالاتساق مع تهميش إنسان المنطقة هناك، من جانب السلطات في مراحل متعاقبة أو متقطّعة من التاريخ. لم نسمع أو نقرأ عن الخزّافات اللّواتي يفترض المنطق حضورهنّ، وهذا ما بنيت عليه في «سجّاد عجميّ»، فالرواية في وجه من وجوهها تكتب ما غاب عن التاريخ المكتوب، أو ما تمّ تغييبه، بما يتماشى مع منطق ذلك التاريخ، وحياة أفراده.

> يقول ماركيز إنّ كلّ الروايات ما هي إلاّ تنويعات مختلفة للسيرة الذاتيّة للكاتب؛ فهل كتبتِ سيرتك الذاتيّة؟

– السيرة الذاتيّة هي من روافد الكتابة، وكلّما كانت تجارب الكاتب الذاتيّة عميقة ومتعدّدة، وكذلك خبراته، جاء نصّه أكثر غنى وعمقاً. هذا لا يعني أنّه يكتب «أوتوبيوغرافي» أو سيرة ذاتيّة واضحة، لكنّه قد يوزّع ذاته وسيرته وتجاربه ومعارفه على الشخصيّات جميعاً، وعلى مدار الروايات التي سيقدّر له أن يكتبها. نعم، يقال إنّ الرواية سيرة ذاتيّة ملتبسة، وكونديرا يقول إنّنا دائماً نعيد إنتاج سيرتنا لتتخذ دلالات أخرى، وبالنسبة إلي تلك السيرة ليست التاريخ الشخصيّ، بل لعلّها الاحتمالات الموازية لحياتنا أو لحيوات الأشخاص الذين مرّوا يوماً بنا، أو كان من الممكن أن يمرّوا، أو أنّ احتمال مرورهم لايزال قائماً.

> كيف ترين دور المثقّف في محاربة التطرّف؟

– تاريخيّ مستمرّ وليس آنيّاً أو موقّتاً. الثقافة في النهاية هي حالة فرديّة معقّدة، ما زال تعريفها يتخذ أشكالاً عدّة، منذ أن ظهر في منتصف القرن الثامن عشر في أوروبا. بالنسبة إلي؛ أعتقد بالدور التنويريّ للمثقّف، مفكّراً أو فنّاناً، وأرى أنّ منبر الكاتب هو نصّه، ولست مع أن يقفز من دور إلى آخر، وأن يكون أداة في يد أيّة سلطة أو تيّار أيديولوجيّ، فهو إن كان أصيلاً ليس في حاجة إلى رافعة أخرى غير النصّ. وهذا الدور التنويريّ هو شكل عادل من أشكال مقاومة التطرّف والواحديّة والتسلّط.

> لماذا اخترت الإقامة في الأردن؟

– لأنّني متزوّجة بأردنيّ، وأعيش في عمّان منذ العام 2002. بقيت تلك الفترة كلّها أدرّس في جامعة حلب، وأعود في نهاية الأسبوع إلى بيتي في عمّان، إلى أن صار التنقّل مستحيلاً بسبب الحرب، فانتقلت للعمل في الجامعة الأميركيّة في مادبا، وعدت للاستقرار في بيتي في عمّان.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى