صفحات مميزة

شيء ما يحترق في القصير: عبدالحميد سليمان

عبدالحميد سليمان *

مع روائح الجثث، وما يمكن أن يحدث هناك من مجازر، تفوح في بلدة القصير رائحة شيءٍ آخر يحترق، أغلب الظن أنّه «حزب الله»، وركون أمينه العام السيد حسن نصر الله إلى واقعٍ قديم، أنّهم قاوموا إسرائيل في الماضي، وأنّهم حرروا الجنوب اللبناني من نير الاحتلال، كلّ هذا لم يعد كافياً لإخماد الحريق الذي أشعله تورط الحزب في الصراع السوري، أو كافياً حتى لمسح الدماء السورية التي تلطخت بها عُنوةً أيادي مقاتليه. النار هناك في القصير تأكل الماضي، ومعه قبولنا الأحمق أن نغطي المستبد تحت أيما غاية، لا شيء يغسل عار الطغيان بعد اليوم، تحرير الأرض لا يغسله، وكذلك الصمود في وجه أعدائنا المفترضين، لا يغسل العار هذا إلا الحرية التي نبتغيها كأفراد، حتى لو عنى الأمر بقاء الأرض محتلة.

لكنّ الحزب وأمينه العام لا يزالون مُنتشين بالنصر القديم الذي حققوه، قال الرجل مرةً في بنت جبيل بعد التحرير: «إن هذه المقاومة حين تنتصر تتواضع»، لكم هو خرقٌ أن نقول ما لا نفعل، ثم أن نتوقع أن يصدّقنا الجميع، لم يعد أحدٌ يصدّق ما يقوله السيد على أي حال، لقد احترقت بقايا صوره التي لطالما زيّنت البيوت في سورية هناك في القصير، الهشيم السوري أتى عليها جميعاً، وبطلٌ آخر من ورق أكلته نار الثورة السورية، وتوق السوريين إلى الفكاك عن ماضيهم، وإلى حياةٍ أفضل لهم ولأطفالهم، لكنّ السيد الذي انحاز منذ البداية إلى الماضي، وإلى الطغيان، قرر أن يحرق الجميع… الأسد أو نحرق البلد، هكذا خُيِّل إليه أنّه قادر، لا يعلم أنّ الروائح الكريهة التي تنبعث من القصير ليست لسوريين فقراء قُتلوا دفاعاً عن قراهم، ولكنها لسيدٍ اعتقد أن بوسعه أن يكبح عجلة التاريخ عن التقدم.

ثمة قناعةٌ مغلوطةٌ لدى البعض، أنّ ما قد يحدث في القصير سيحدد الكثير، كل شيء قد سبق وتحدد أيها السادة، السيد هذا، وحزبه ووليّه الفقيه ذاهبون معاً إلى مدارك التاريخ، وإلى ما قد يكتبه الرجال في أوقات السعة عن الطغاة، والسوريون البسطاء ماضون في طريقهم الذي اختاروه إلى الحرية، وإلى الانعتاق النهائي من هذا الهراء الصارخ الذي صمّ الآذان، ربّما ليس بعد، ربّما بعد حين، لكنّ شيئاً ما لن يستطيع منعهم من الوصول، لا اختراق موضع هنا في خربة غزالة، ولا نصرٌ هناك في القصير، السوريون الذين خرجوا كانوا يعلمون أنّ الأمور لن تكون بتلك البساطة.

لذلك خُذ وقتك يا سيد، وأرسل إلينا خيرة الرجال، ومعهم أعتى المقاتلين بعدتهم وعتادهم، أو اترك بعضهم لقتال ذويك لاحقاً في لبنان، فيدك تلك التي لا تنفك تلوّح بها، ربّما تحتاج مزيداً من الوقت، كي توغل في دماء السوريين واللبنانيين أكثر، خذ وقتك ودعنا نتفكّر قليلاً، أكان من الضروري أن نعبر كل هذا كي ندرك الحقيقة، أن طريق القدس لا تمر عبر القصير، أو عبر جونيه، أو الحولة، أو جديدة عرطوز، أو التريمسة، وإن كانت، فمن قال إنّا نريد الذهاب إليها، ربّما لأننا نريد الذهاب إلى القصير، كي نسعف بعض الجرحى، ونلملم الأشلاء، ونربت قليلاً على رؤوس الأطفال الخائفين هناك، أن نقول لهم إن الأمور ستكون بخير، من قال إنّا نريد الذهاب أبعد من هذا.

ربّما لا تكون النار المشتعلة في القصير كافيةً لحرق كل المفاهيم المهترئة في هذا الشرق، ربّما يقتضي الأمر أن تشتعل البلاد عن بكرة أبيها كي يعيد السوريون صوغهم لماهية العدو، كي يعيدوا صوغهم لذواتهم، لكن الحرية والأسئلة التي تطرحها لم تكن يوماً هينة… من هو العدو أيها السادة؟ من هو العدو أيها السوريون؟

 * كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى