صفحات العالم

شيء ما يحدث في مصر


عباس بيضون

أخابر أصدقاء من مصر، مبارك شد رحاله إلى شرم الشيخ وبدأت محاكمته. العدلي أدين، الثورة انتصرت لكني أجدهم، أصدقائي، قلقين. أجدهم أحياناً في ضيق. إذا مرت الغيمة أجدهم عادوا إلى هدوئهم. يدهشني ذلك لكن لا استغرب. أجد للقلق أسباباً وللضيق أسباباً وللثواب إلى الهدوء أسباباً. لكل يومه، والناس بحسب يومها. انتصرت الثورة لكن المعركة لم تنته. ان منقلباً آخر بدأ ولن يكون أهون ولا أبسط، انتصرت الانتفاضة لكننا لا نحتاج إلى «الثورة الدائمة» او «الثورة غير المنقطعة» لنفهم ان كل يوم يأتي بجديد. ان تطهير الدولة وتصويب سياساتها وعزل غيلانها وبناء الديموقراطية أمور تحتاج لا إلى وقت ولكن إلى صراع. إلى تدقيق ومراجعة ومراقبة ومتابعة وتصويب مستمر.

استطاعت الانتفاضة المصرية أن تسري في جسم المجتمع كالنار في الهشيم. نزول الملايين إلى الشارع كان العلامة، لكن الجماهير لا تبقى في الشارع ولا تنزل كل لحظة بالملايين، سيكون نزولها صعباً لكن إعادة نزولها ستكون أصعب، هذا درس شاق ولا يسهله النظر او إعادة النظر إلى تاريخ الثورات، نزول الجماهير إلى الشارع بالملايين وبالحشود ليس أمراً جديداً، لكن سلميتها والحفاظ على هذه السلمية رغم التصدّي العنيف ليسا مألوفين. ثم هناك فوق ذلك بقاء الجماهير محترسة مصوّبة العين إلى ما يرسم وما يقرر متأهبة لتعترض، واضعة الإدارة تحت رقابة دائمة.

ما يجري في مصر من هذه الناحية غير معتاد، لم يعترض الشبان المنتفضون على قيام المجلس العسكري بتولي السلطة بالنيابة بعد رحيل مبارك. بيد أنهم من اللحظة الأولى طالبوا بإدماج مدنيين في قيادة السلطة إلى جانب عسكريين، مطالبة لم يتوقفوا عندها بالصلابة التي ألفناها فيهم. بقي المجلس العسكري متولياً السلطة منفرداً بها. لم يكن التشكيك في المجلس العسكري ممكناً في البدء، ذلك ان الجيش الذي خذل الرئيس كان حتى هذه اللحظة جزءاً من الثورة. وكان من حفظ الجميل له ان لا يثقل عليه بالطلبات وان لا يوضع بوضوح تحت الرقابة وان لا يجري تشكيك معلن فيه. لكن النخب التي قادت الثورة حرصت في البدء على ابقاء الجماهير في الشارع احتياطاً لأي عقبة وتعويداً لها على ان تبقى في المعترك. ذلك كان يعني الثقة بهذه الجماهير كما يعني العمل المستمر على زيادة تسييسها وإبقائها في الصراع. لم يجاهر الشبان بتحفظاتهم على العسكر إلا حين بدأ العسكر ممثلاً بالمجلس العسكري الوصي على السلطة بإظهاره افتراقه عن شبان الثورة، المجلس العسكري الوصي أياً كانت نواياه شكل جزءاً من نظام أجبر على الرحيل، إن فيه امارات من هذه السلطة، سواء في نمط إدارته وفي علاقاته ببقية المؤسسات وفهمه للدولة وللقانون وللسياسة وللإدارة، ذلك ما عبر عنه المجلس العسكري في بطء قراراته وفي إهماله لعدد من مطالب الثورة. كما عبر عنه بتباطئه في محاكمة المسؤولين عن جرائم وعسف السلطة في مواجهتها للثورة، كما عبر عنه بتلكئه عن تحرير الشبان المعتقلين بسبب الثورة، وبإقدامه على اعتقال آخرين أثناء التحركات الجماهيرية، لم يكن فهم المجلس العسكري للتطهير والمحاكمات هو ذاته فهم الشبان الذي تشربته الجماهير وغدا شيئاً فشيئاً تياراً فيها.

عمل المجلس العسكري عند ذلك على التحالف مع فرع من الثورة هو الإخوان المسلمون، الإخوان المسلمون الذين سلفوا المجلس العسكري ثقة كاملة، كان هذا أقرب إلى شق الصف الثوري وحصل ذلك عندما توانى الإخوان عن التظاهر تاركين الشبان وحدهم في الشارع، أضعف هذا من زخم الشارع وزخم التظاهر، لكن الذي حدث وصحا عليه الإخوان هو ان الشبان وحدهم في الشارع. ذلك يهدّد بترك الشارع لهم، أثناء ذلك كان الشبان يضخون في الشارع النقمة على تباطؤ المحاكمات والتأخير في إدانة المجرمين، هذا ما جعل الإخوان الذين طالما جاهروا بتطابقهم على المجلس العسكري وحلفهم النهائي معه، يتراجعون هذه المرة، لقد رأى فيهم المجلس العسكري جناحاً من السلطة وتقليدية سياسية طالما اختبرها وتعوّد عليها، اما الإخوان فدار لهم انهم بتحالفهم مع السلطة يغدون معها القوة الكبرى مما يغلق الباب على الشبان ويجبرهم على التراجع او الانعزال. لم تسر الأمور على هذا النحو. لقد بدا الشبان الناشئون في السياسة أكثر قدرة على التسييس الجماهيري وأكثر قدرة على إمساك الشارع. ثم ان تجربتهم بدت الأساس. إبقاء الجماهير في الشارع لم يكن من دون نتيجة، تعلمت الجماهير في الشارع وتسيّست على نحو سريع وواسع. لقد تدرّبت أيضاً على السلطة في الشارع فمراقبة السلطة ومحاسبتها عند كل لحظة وكل موقف والنزول شبه الأسبوعي إلى الشارع، ذلك جعل الجماهير تتمرس بالسلطة، جعل مقابل السلطة التي فوق سلطة من تحت، فرض هذا النزول الأسبوعي نوعاً من السلطة المباشرة المتمرسة التي تحاسب كل أسبوع عما حصل. الغريب والشائق أيضاً أن سلمية التحرك بقيت هي نفسها، نظامية هذه الجماهير التي تتزايد يوماً بعد يوم، ووعيها الداخلي. وحسها النقدي، كل هذه أمور ذات جدّة واضحة، فالواضح ان شيئاً يحدث في مصر بوجه خاص.

الواضح أنها تجربة خاصة يتمخض عنها الواقع المصري، لن نسميها المجالسية او السلطة المباشرة او أي اسم من هذا القبيل. سنسمّيها حس الشارع المتزايد بالمسؤولية. حسه بواجباته وأدائه النظامي لها. أيا كان الأمر فإن الجماهير عادت إلى زحفها المليوني. اضطر الإخوان إلى النزول إلى الشارع وفرض الشارع في يوم واحد ما لا يمكن للسلطة أن تقوم به إلا في أشهر: صرف مئات الضباط والإسراع في المحاكمات، وتأخير الانتخابات الذي ليس في مصلحة الاخوان يفاجئ مصر الآن كما فاجأتنا من أشهر، يفاجئ بالمستوى السياسي الذي يعيد اكتشاف الشعب والشارع والجمهور.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى