صفحات سوريةنور الله السيّد

شيء من سوريي اليوم


د. نور الله السيّد

الوجوه التي تطالعها اليوم في سورية وجوه متعبة، حزينة، حائرة، اختفت عنها البسمة وحل محلها قلق ووجوم. الشوارع التي تسير فيها، المهدمة أو لا، لا يختلف حالها عن حال عابريها، يعلوها الأسى والفوضى والقذارة والإهمال، تنتظر قطرات المطر الأولى لتبتل وتغير شيئاً من هيئـــتها وتعيد إلى أشجارها بعضاً من نضارتها، ولكن القطرات الأولى لهذا العام كانت كما قطرات نهاية المطر في نيسان الماضي، أمطار طينية زادت المدينة حزناً على حزن.

وأينما كان سكناك في دمشق، إن كنت ممن بقي فيها ولم ترحل، تصدعك أصوات ثقيلة وبعيدة لقذائف تطلق على ريفها، متكررة، تهدأ أحياناً وتتكاثف أحياناً أخرى، تقطع هدوء الليل رعداً مصحوبة بدوي طلقات غزيرة لأسلحة فردية يتبادلها طرفان، توقظك ككابوس يومي مرعب تجعلك تتساءل: على رؤوس من تقع هذه القذائف؟ هناك أبرياء بالتأكيد يدفعون ثمناً لذنوب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وهذا يوسع من دائرة الرعب والموت ويزيد من ثقل تغاضين الوجوه وكلحتها. هذه القذائف وهذا الرصاص أصبحا جزءاً من الحياة اليومية، تسمعها، بعضها يهز أبواب بيتك وشبابيكه، وبعضها قد يسقط ليس ببعيد عنك ولكنك تتابع حياتك في تلك اللحظة وتنحدر درجة إضافية على سلم الإحباط واليأس من غد أفضل. اليوم هو السادس من تشرين، عدد القذائف التي سقطت على دمشق في هذا الصباح من عام 2012 أكثر من عدد القذائف التي سقطت عليها عام 1973.

لقد قتل من السوريين ما يربو عن الثلاثين ألفاً، ومفقوديهم بضعف قتلاهم، وهم قتلى في أغلب الظن، وفاق ذلك كل ما خسره السوريون في مجموع حروبهم مع عدوتهم إسرائيل! والعالم يتفرج كمن يتفرج على مسلسل تلفزيوني، يصدر العويل والوعيد والوعود الكاذبة تاركاً السوريين لقدرهم الذي نأى الخالق، حتى هذه اللحظة، عن التدخل فيه بالرغم من ندائهم المتكرر: يا ألله ما إلنا غيرك يا ألله.

اتصلت بصديق يعيش في حلب أتلقط أخباره فقال: إنه الموت في كل مكان، لا كهرباء ولا ماء، ولا طعام ولا دواء ولا طبيب ولا شيء، أخرج في الصباح علني أُصِب ما يسد رمق عيالي، وأحياناً أُصِب وأحياناً لا. فقلت له هات عيالك وتعال إليّ في دمشق، فمكان سكني لا يزال آمناً حتى اللحظة، فقال وأي طريق أسلك؟.

أما صديقتي التي تقطن حمص فقالت ضاحكة باكية: ما عدت أهتم لسماع القذائف تمر فوق رأسي فهذا أمر اعتدته وأصبح بمثابة قهوة الصباح، ما يهمني الآن هو أن يبقى لي متسع أتمدد فيه في بيتي من كثرة قاطنيه، لقد استضفت معظم سكان البناية التي أعيش فيها، وأنا في كل يوم لا أعلم إن كنت سأعود للبيت أم سأتمدد أحد الشوارع بفعل شظية.

واتصلت بصديق في دير الزور، فأجابني بأنه نجى وعائلته لاجئاً عند الحدود العراقية وأخوته غادر بعضهم إلى الحسكة وآخرون إلى الرقة أملاً في أمان أفضل.

وكان أول من اتصلت بهم هذا الأسبوع صديق من ريف درعا تهدم بيته وقتل اثنان من أولاده وعندما بادرته معزياً فرد عليّ بصوت مجروح بأنه سيذهب إلى الجولان فاراً.

نحن بين نظام يقتلنا كلما استطاب ذلك، لا راد له ولا صاد، وبين معارضة سياسيوها مفلسون وعسكريوها مشتتون لا جامع بينهم، قتلوا مظاهراتنا السلمية بحجة أن مثل النظام السوري لا يؤتى إلا بالسيف، ولكن غمدهم لا سيف فيه، فوأدوها ويبحثون لاهثين عن سيف لغمدهم. نحن بين نظام ماتت فيه الرجالات، ومعارضة رثة كلما أعلنت، بشقيها، عن توحد ازدادت تمزقاً. يضاف إليهما عالم بشرقه وغربهم لا يأبه لا بدم السوريين ولا بمحنتهم، وكلاهما يتشدق بالدفاع عن الحقوق، حقوق الدول وحقوق البشر، ولكن لا حقوق إلا ما يروق له ويستطب.

ولكن كيف للجيش العربي السوري أن يقصف السوريين، أخوته وأقاربه وأهله، يصب عليهم حمم طائراته ودباباته ومدافعه؟ هل أصبح جيشاً بلا أخلاق؟ فحتى جيوش الأعداء ترأف بالمدنيين وتحميهم ولكن الجيش السوري حمى القتلة ممن نفذوا المذابح بالسوريين، ومذبحة الحولة يندى لها جبين أي جيش. وطاعة الجيش السوري لسيد القصر بالقتل كانت طاعة عمياء على مدى عشرين شهراً جعلته جيشاً للحاكم لا جيشاً للوطن، وهذا أسوأ ما في الأمر.

وكيف للمعارضة السورية ألا تقدر على التوحد بعد أكثر من عام ونصف وألا تقدر أن تتخذ موقفاً في السياسة أو في الحرب يجمع السوريين ويخرجهم من سردابهم! ألا يرون، وهو يتصارخون، كيف تتسرب إلى سورية جماعات بأسماء مختلفة لن تبقي على الوطن السوري غداً، وكيف أصبح لكل عمامة بيرق، ولكل دولة جولة وصولة، وكيف اختفى شباب سورية قتلاً أو سجناً أو صمتاً أمام قرقعة السلاح، وهذا هو البؤس بعينه… وسيكرر السوريون صامتين للمرة الألف بعد الألف: يا ألله ما إلنا غيرك يا ألله، لعل نداءهم يلقى استجابة ولو لمرة من المرات.

‘ أستاذ جامعي سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى