صفحات الناس

شيوخ العشائر في دير الزور، عزف على المعادلات الصعبة/ محمد حسان

 

 

يقول مطلعون من أبناء عائلات الزعامات العشائرية في دير الزور، إن بيوتات المشيخة في العشائر، وفي دير الزور خاصة، لم تكن متوارثة عبر أجيال طويلة، وإنها لا تخضع لقوانين ثابتة وأعراف قطعية، بقدر ما تكون نتاج ظروف موضوعية وعوامل ذاتية لدى الشيخ والعشيرة والمحيط. وعلى ذلك فإن صفات يحملها شخص معين، تتيحُ له أن يجمع أبناء عمومته حوله، ليكون مُهاباً منهم ومسموع الرأي في قضايا حيوية للعشيرة.

وقبل خمسين سنة فقط، كانت هذه الصفات تركز بشكل خاص على القدرات الجسدية إلى جانب المعنوية من كرم ومروءة، فكون الرجل مديد القامة حسن الوجه قوي البنيان وجميل الهندام، هي أمورٌ تجعله مهاباً ومحترماً في المجتمع العشائري في دير الزور.

لا أحد يستطيع البت بشكل جازم بشرعية كاملة لأي شيخ عشيرة في دير الزور، حتى في أفضل فترات سيطرة هؤلاء المشايخ على عشائرهم، فهناك دائماً منشقون وأعداء من عشيرته أو «أعمامه»، وهم منافسون يتحينون الفرصة للطعن في شرعية مشيخته، ولكن يلاحظ أنه مع طول فترات سيادة أسرة معينة على مشيخة عشيرة، ترتفع القيمة المعنوية لهذه الأسرة وتصبح بالتقادم ومع مرور الزمن أصلب، وغير قابلة للطعن من قبل أفراد العشيرة.

هناك إذن فرقٌ بين بيوتات مشيخة عمرها لا يزيد عن خمسين عاماً، وبيوتات أخرى تناقلت المشيخة بين أبنائها لمدة تصل إلى 300 عام، فالأخيرة تبدو أقوى وأصلب وذات احترام أوسع في المجتمع، ويبدو أن العقل المتخيل للجماعات العشائرية يُبنى بالتراكم، وهو الأكثر تأثيراً في وعي رجال العشائر. ولا يبدو أيضاً أن هناك قواعد مرعية في انتقال أمر العشيرة من شخص إلى آخر ضمن العشيرة، إذ أن الأمور تبدو سائلة وغير متوقعة، ففي عدة حالات كان كبير أبناء الشيخ الراحل يُستبعد لصالح أحد أخوته الأصغر سناً، كما يمكن أن يُستبعد آخرون ممن كانوا أكثر احتراماً بين عشيرتهم، مما يجعل البحث في هذا الأمر صعباً وغير مفهوم من خارج البيئة العشائرية، التي تبدو معقدة جداً بالنسبة للمراقب الخارجي.

عند التحدث عن المشيخات العشائرية في دير الزور، وبالتحديد خلال سنوات الثورة، يجب علينا أن نتوخى إيراد ثلاثة أمور هامة تصبّ في السياق ذاته، سياق فهم واقع هذه المشيخات وأثرها الحالي في المجتمع، وما يرجوه أبناء العشائر وما يمكن تحقيقه. أول هذه الأمور هو علاقات أفراد هذه العائلات مع السلطة (النظام السوري وداعش والنصرة… إلخ)، والتفريق بين سلطات الأمر الواقع والسلطات الشرعية وكيف يتعاملون مع كل واحدة؛ الأمر الثاني هو النزاعات بين عائلات المشيخة بشكل عمودي بين أفراد العائلة الواحدة، والصراع الأفقي بين عائلات المشيخة للقبيلة الكبرى وبين عائلات الصف الثاني من الذين يترأسون عشائر القبيلة؛ أما الأمر الأخير فهو علاقات أفراد عائلات المشيخة مع شباب الثورة، سواء كانوا ناشطين سياسياً أو عسكرياً.

الصديق الغريب

في العام 2009 وصل إلى دير الزور ضابط تابع للنظام السوري برتبة لواء ركن، اسمه جامع جامع، وذلك بعد تكليفه بإدارة شعبة الأمن العسكري بدير الزور. بدا التعيين حينها لأبناء المحافظة وكأنه إبعاد لأحد المتهمين باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عن المركز، لكن تبين لاحقاً مدى صواب النظام في اختيار اللواء جامع، فقد أرسل الرجل بمهمة استطاع لاحقاً تنفيذها بمهارة عالية بعد أن اكتسب خبرة واسعة في عمل المخابرات أثناء عمله كضابط في مركز «بوريفاج» لمخابرات النظام السوري في لبنان. وفور وصوله إلى المحافظة النائية في أقصى الشرق، بدأ الرجل بدعوة رجالات عائلات المشيخة المتواجدين في دير الزور لزيارته في مكتبه، ومن الملاحظ أنه خلال تلك الفترة ركز على العشائر الثلاثة الكبرى مع اهتمامه بمشايخ الصف الثاني في العشيرة، وشباب عائلات الصف الأول، وخلال السنة الأولى من وصوله لدير الزور، استطاع جامع جامع اختراق البنية الاجتماعية للمنطقة وبنى علاقات هامة مع عدة عائلات في المنطقة، ساعدته لاحقاً في بداية الثورة على إجراء مصالحات أو اتفاقات تصب في صالح النظام السوري مع أطراف هامة في المحافظة.

يقول أحد شيوخ العشائر في ريف دير الزور الشرقي: «رغم أنني حاولت التملص من مقابلة جامع، إلا أنني أُرغمت أخيراً على ذلك بعد ما يقارب الشهرين، مع إلحاحه المتزايد علي. وصلتُ مكتبه بحجة مباركة المنصب الجديد له، وقال لي جامع وقتها إنه من الضروري متابعة اللقاءات، فهناك معتقلون (بقضايا جنائية ومخالفات) من أبناء عمومتك يجب أن نتواصل من أجلهم، وقلتُ له حينها إنني لن أدافع عن شخص تجاوز القانون، وذلك من أجل التملص منه. لم يكن من المحبذ بالنسبة لي الذهاب إلى أفرع الأمن التابعة للنظام، فهو يعطي انطباعاً سلبياً لدى أبناء عشيرتي».

الشيخ الذي التقيناه في مدينة أورفا التركية، وقد تخلى عن لباسه التقليدي، وهو الأمر الذي ربما يعود إلى خلفيته المتعلمة، إذ إنه خريج كلية الحقوق في دمشق، يقول أيضاً: «جامع جامع التقى بمعظم أبناء عائلات المشيخة في دير الزور، واستطاع بحسب ما وصل إليَّ أن يخترق البنية العشائرية في دير الزور عن طريق أبناء عائلات وربطهم بمصالح النظام عن طريق امتيازات».

تعرض ابن الشيخ البِكر لإطلاق نار من قبل الأمن العسكري بعد فضّ إحدى المظاهرات في الأشهر الأولى من الثورة، ويرى والده أن عناصر الأمن حاولوا اغتيال ابنه للضغط عليه عن طريق تهديده بابنه المفعم بالحماس للثورة، خصوصاً أن إطلاق النار تم بعد أن خرج ابنه من المظاهرة، بحيث لم يكن عناصر الأمن محتاجين لإطلاق النار عليه.

خلال سنوات 2011 ومطلع عام 2012، عندما كانت معظم مناطق دير الزور تحت سيطرة جيش النظام، كان عدد لا بأس به من شيوخ العشائر في دير الزور يتوافدون إلى مناطق النظام دون قدرة الجيش الحر على منعهم، لما في ذلك من خطورة على سلطتهم الناشئة في المنطقة، والتي كانت ما تزال هشة نسبياً، لأن اعتقال أحدهم كفيل بإثارة أبناء عشيرته عليهم.

لاحقاً قُتِلَ جامع جامع أثناء معارك دير الزور في تشرين الأول/ 2013، لينفرط بعدها عقد ما بناه الرجل الوفي لنظام الأسد في المنطقة من علاقات ومصالح خلال سنوات عدة، وقد ألمح عدد من الشيوخ الذين ذهبوا إلى مناطق سيطرة قوات النظام وقاموا بمقابلة عصام زهر الدين إلى ذلك. وزهر الدين هو ضابطٌ آخرٌ في النظام السوري تولى فعلياً قيادة قواته في دير الزور، إلا أنه، على عكس جامع جامع المخابراتي، آتٍ من الحرس الجمهوري، وهي قطعات الجيش الأكثر نخبوية وقرباً من قلب النظام في الجيش السوري. لقد توجسوا من الإنسان العسكري الجلف الملتحي، وتهكموا لاحقاً من حجم شاربيه الضخمين، وقد بدا غير قادر على التعامل معهم بمثل براعة الرجل السابق القادم من المؤسسة الأمنية، والذي تطورت علاقاته بهم إلى علاقات صداقة شخصية، ما يعكس حجم النجاح الذي حققته هذه المؤسسة في فهم طبيعة العلاقات العشائرية والتعامل معها واحتواء جمهورها.

أوقفوا الشباب الطائش

يرى الشيخ ذاته أن شيوخ العشائر وأبناءهم في دير الزور كانوا بالمجمل ضد الثورة وضد الحراك الشبابي داخل عشائرهم، ما عدا بعض الحالات النادرة على مبدأ «الحالة الشاذة تؤكد القاعدة ولا تنفيها»، وذلك لسبب جوهري برأيه وهو «خوفهم من البروز القوي والمدوي للشباب الثوري المتعلم من داخل عشائرهم، وهو ما أرعبهم كونه كفيل بإزالة ما تبقى من حضور لعائلاتهم».

من جانب آخر، كان شيوخ العشائر معنيين بحماية مناطق عشائرهم من مداهمات الأمن ومن القصف، وهو ما حملوا مسؤوليته في الغالب لنشطاء الثورة. هكذا كان يتم استهداف المناطق، ما يُجبر العشيرة على طلب التدخل من شيخها لدى دوائر صنع القرار في المحافظة لإيقاف القصف أو للإفراج عن المعتقلين. وكان المشايخ في أكثر الأحيان يتدخلون ويؤدون ما يرونه واجبهم تجاه عشائرهم، فالنظام السوري كان يحاول تقوية نفوذهم داخل عشائرهم بغية الاستفادة من حضورهم في تهدئة حركة الاحتجاج واحتوائها، وكذلك كان شيوخ العشائر حريصين على الحد من نفوذ النشطاء، وعدم الاستسلام أمام الموجة الثورية العاتية.

وخلال تلك الفترة كان هناك مراوغة بين الطرفين، فشباب الثورة حاولوا استخدام الشيوخ للتغطية على عملهم داخل العشيرة باعتبارهم غطاءً اجتماعياً جيداً أمام ملاحقات أجهزة مخابرات النظام السوري، وبعد ستة أشهر تقريباً من الثورة بدت دوريات الأمن أضعف من أن تتوغل داخل مناطق العشائر، خوفاً من ردود فعل عنيفة جماعية من هذه العشائر تهدد هذه الدوريات بالخطر، أو تؤدي لانزياحها بكاملها إلى جانب الثورة.

بعد انطلاق العمل المسلح واشتداد قوة الجيش الحر في ريف دير الزور، حاول شيوخ العشائر استمالة عناصر الجيش الحر إلى جانبهم، باعتبارهم ضمانة لعشائرهم ورديفاً لقوتها. وخلال العام 2013، شهد ريف دير الزور أعمال عنف بين فصائل محسوبة على عشائر معينة، وفصائل محسوبة على عشائر أخرى أو مسلحين من عشائر أخرى، بمباركة عائلات المشيخة في العشائر، الذين أصبحت تتم استشارتهم من قبل قيادات الجيش الحر، خصوصاً أن بعض هذه الفصائل بُني أصلاً على أساس عشائري، أو بأحسن الأحوال بغالبية من عشائر معينة، وقلما كان المقاتلون ينضوون تحت قيادة أشخاصٍ من غير عشائرهم، كما هو الحال مع فصائل «مؤتة» و«القعقاع» و«لواء القادسية». هكذا تم تقليص الفجوة تدريجياً بين النشطاء والقوى الثورية المسلحة، والمشيخة وعائلاتها.

ولكن، وبعد دخول داعش إلى دير الزور وسحق فصائل الجيش الحر فيها، عاد الخلاف من جديد بين قيادات الفصائل وبين شيوخ العشائر وأبنائهم، بعد أن أضحى معظم الطرفين خارج دير الزور، ومحلُّ الخلاف هو طريق العودة إلى دير الزور وتحريرها. تعيش مدينة أورفا جولات ماراثونية من الجدل بين الطرفين، خصوصاً فيما يتعلق ببرامج التسلح للفصائل والعشائر ومشاريع سياسية أخرى، إذ يتسابق الطرفان على المفاوضات مع جهات غربية بصدد الحصول على دعم عسكري ومادي لطرد داعش من دير الزور.

صراعات في الخفاء

بعيداً عن الظاهر من صراعات بين شباب الثورة وشيوخهم، وفي دوائر ضيقة وأحاديث خاصة، تدور صراعات داخل عائلات المشيخة الرئيسية في دير الزور، خصوصاً مع تسابق عدة أطراف على جذب شيوخ العشائر إلى صفها، فشيوخ العشائر في المنطقة موزعون بين دمشق تحت سلطة النظام السوري ومن الموالين له، ومدينة أورفا التركية حيث قوى المعارضة ونفوذ الحكومة التركية وأغلب هؤلاء من معارضي النظام السوري، ودير الزور تحت سلطة داعش، ويوجد من كل عائلة شخصٌ على الأقل لدى كل طرف، وكل منهم تقريباً يدعي تمثيل العشيرة.

في أورفا أيضاً قابلنا أحد أبناء عائلات المشيخة المعروفة في دير الزور، ويبدو شاباً أنيقاً وهادئاً في منتصف الثلاثينات، وحوله يتحلق عدد من النشطاء الثوريين من أبناء عشيرته، وهم إلى جانب التزامهم بثورتهم لا يخفون التزامهم بعشائرهم، ويتبادلون هم وآخرون تهماً بشأن من هو المسؤول عن سقوط دير الزور بيد داعش، عن طريق ممارساته أثناء فترة سيطرة فصائل الجيش الحر عليها.

يحاول الشيخ الشاب بشكل أو بآخر التوفيق بين ثورية نشطاء عشيرته ومصالح عائلته، ولكنه يرى أن القيادات العسكرية من أبناء عشيرته قد تغطرست في التعامل مع عائلته التي سوف تعود إلى مكانتها مستقبلاً بما لديها من رصيد لدى أبناء العشيرة، فلا أحد يستطيع أن يحل محلها في قيادة العشيرة مهما بلغ من سلطة أو ثورية، وسوف يعود كل إلى أصله عاجلاً أم أجلاً. وحسب قوله ستكون مناطق عشيرته محمية وآمنة، أما سيطرة قيادات الفصائل من أبناء عشيرته على المشهد في مناطق العشيرة بعد تحريرها من داعش فلن يجلب الاستقرار لها، كونهم جميعاً يفتقدون المرجعية داخل العشيرة، والتي هي منوطة ببيت المشيخة حصراً.

وهو لا ينكر أن هناك خلافات بين أفراد عائلته «بيت المشيخة»، ولكن العائلة بإمكانها تجاوز هذه الخلافات ومن يمتلك قدرات المشيخة سوف يتصدر تلقائياً، ومن يتصدر لن يستطيع أحد زحزحته وسوف يبقى شيخ العشيرة مهما تعرض لضغوط من خارج العشيرة أو داخلها وسوف يحظى بتأييد أعمامه بشكل مطلق، ورغماً عن معارضة بعضهم.

إلى جانب ذلك، يتوقع الشاب أن الذين يحافظون على بقائهم بين عشائرهم ولا يغادرون بعيداً بالتأكيد سوف يكونون الأوفر حظاً في الحظوة داخل العشيرة، وهنا نعود للسؤال الأول: كيف يتصدر شيخ العشيرة في دير الزور؟ وكيف يصبح السيد بين أبناء عشيرته؟ لن يكون هناك إجابة موحدة ودقيقة، فكل شيخ وكل عشيرة جدير بالدراسة كحالة فريدة في طريقة صعوده، والعوامل التي ساعدت على بروزه.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى