صفحات الرأيياسين الحاج صالح

صادق جلال العظم: الاستشراق، الاستشراق المعكوس وسياسة المثقف/ ياسين الحاج صالح

 

 

يحرك نقد صادق جلال العظم لكتاب الاستشراق لإدوارد سعيد حرصٌ على «الكونية»، على صلاحية عابرة للثقافات لمقولات الفكر المادي والعقلاني الحديث، على نحو ما تشكل في القرن التاسع عشر والعشرين. يخشى صادق أن من شأن نقد أحادي الجانب للاستشراق الغربي، أي نقد الاستشراق دون نقد «الشرق»، أن يُسوِّغ هذا الأخير، «الشرق الأبدي» الذي لا يتغير ولا يكفّ عن مماثلة ذاته، وأن يشرّع بخاصة نزعات «الاستشراق المعكوس» التي وجدها منتعشة بين قوميين وإسلاميين، ومثقفين حديثي التكوين مثل أدونيس وآخرين. الاستشراق، يقول صادق موافقاً سعيد وعبد الله العروي، ينزع إلى إضفاء صبغة جوهرية غير تاريخية على الشرق، لكن الاستشراق المعكوس يفعل الشيء ذاته، وإن اختلف الحكم من سلبٍ إلى إيجاب.

ومن شأن التشكك في الصلاحية الكونية لما يمكن تسميته المعقول الحديث أن يُفقِد المثقف أدوات نظرية مهمة يتعقل عبرها واقع مجتمعه المعاصر، وأكثر من ذلك أن يحول بينه وبين تطوير سياسات أنسب لتقدم هذا المجتمع. التقدم هو اسم عام لسياسة المثقف. وكان يُقصد به التصنيع و«التفكير العلمي» والاشتراكية والعلمانية وتحرر المرأة وغيرها. أما المثقف فهو الشخص المنخرط نظرياً، وربما عملياً، في العمل من أجل التقدم، على نحو ما أخذ يتحقق في أوروبا بفعل الثورة الصناعية والثورات السياسية والاجتماعية.

صادق ثابرَ على هذا التصور العريض للكونية طوال نحو خمسين عاماً من حياته العامة النشطة. بعد سقوط المعسكر السوفييتي، صار يدافع عن العقلانية والليبرالية والديموقراطية بوصفها خط تراجع مؤقت في مسار الصراع التاريخي من أجل التقدم. في نظر مؤلف دفاعاً عن المادية والتاريخ، ليس هذا تحولاً إيديولوجياً، من الاشتراكية إلى الليبرالية مثلاً، بل هو أقرب إلى تكتيك ثقافي مغاير في مرحلة مغايرة. في هذا صادق يختلف عن جورج طرابيشي مثلاً، الذي طور نزعات ثقافوية ونخبوية متشائمة، مضادة للديموقراطية وخائفة من العامة، لم تستبقِ شيئاً من مرحلته الماركسية. وفي مطلع القرن الحالي، انخرط صادق بصورة عملية في أنشطة مثقفين وناشطين سياسيين سوريين في إطار «ربيع دمشق»، وهذا جهد لامتلاك السياسة والفضاء العام من قبل مثقفين وناشطين سياسيين من الطبقة الوسطى. صادق رأى في ذلك تداركاً واجباً لإهمال المثقفين من جيله قضايا الديموقراطية والحريات العامة، وقضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان.

هناك مشكلة. في المصادرة على ولاية كونية ناجزة لمفاهيم «المادية والتاريخ» و«التفكير العلمي» و«التقدم» ما يلغي تاريخ المجتمعات غير الغربية، أعني تجارب الإنسان وصراعاته المعاصرة، واحتجاجه واجتهاده، من صنف ما كان قرره فرانسيس فوكوياما بعيد نهاية الحرب الباردة من استنفاد الديموقراطية الليبرالية لأية ممكنات سياسية وفكرية وأخلاقية مستقبلية للبشر جميعاً. لا ينبغي أن يكون المرء «مستشرقاً معكوساً» حتى يعترض عل هذا الضرب من إغلاق باب الاجتهاد. في الوقت نفسه لا يكفي الكلام المرسل على الإبداع على طريقة أدونيس، أو ما يسميه صادق «ميتافيزيقا الإبداع»، حتى نُنظِّم إدراك واقعنا وصراعاتنا، ونوجه العمل التغييري في بيئاتنا على نحو مثمر. هناك حاجة إلى تطوير مستمر في الأدوات النظرية، في الإنسانيات والاجتماعيات، وفي الفلسفة، من أجل معرفة أفضل بواقعنا وواقع العالم اليوم. هذه الحاجة عامة، لدينا وفي الغرب وفي كل مكان.

ويبقى هذا الكلام صحيحاً حتى لو لم تكن المفاهيم التي جرى التسليم بكونيتها هي صورة فكرية مُحنّطة لواقع القطاع المتقدم من العالم، الغرب، في وقت محدد: وقت ألّف مفكرونا كتبهم الأولى في ستينات القرن وسبعيناته. لكن تلك المفاهيم كذلك فعلاً، صورة من الماضي. هذه النقطة المتعلقة بتجميد صورة أوروبا أو الغرب عند طور تاريخي بعينه (معظم المعنيين متشككون في ما بعد الحداثة وما بعدها) تجعل من نفي مفكرينا الحديثين للتاريخية مضاعفاً: فهو من جهة نفي لذاتية صراعاتنا الاجتماعية عبر إدراجها ضمن قالب فكري مسبق، والقالب من جهة أخرى مُجمّد بصورة مصطنعة، ولم يعد موافقاً لتاريخ المتقدمين اليوم.

صادق لم يتناول هذه القضية ولم يخصص لها جانباً من تفكيره. غاية ما يمكن أن نجده عنده كلام يحيل على وحدة العالم التي تحققت على يد الإمبريالية في القرنين التاسع عشر والعشرين. لكن هذه الوحدة صراعيةٌ تكوينياً، تكتنفها توترات وعنف وحروب وأحقاد وتمييز، يتعذر أن لا تترك آثاراً متنوعة على عالم المقولات والمعقولات. وهي تترك بالفعل، على ما تقول بحق مدرسة ما بعد الاستعمار التي كان كتاب الاستشراق لإدوراد سعيد من وثائقها التأسيسية. يحصل أن يقول صادق إننا أخذنا من الغرب مدركات الجمهورية والاستفتاء وكرة القدم وعقدة أوديب، محو الأمية والتعليم الإلزامي والخطة الخمسية والنشوء والارتقاء… إلخ، ولا نستطيع أن نستغني عن هذا الأخذ الذي صار من «نسيج مجتمعاتنا». على أن هذا الإلحاح السجالي علامة على نظرية غائبة في تقديري. فالمسألة لا تنحل في الأخذ والاستغناء، وانحصار حركة تفكير صادق في حقل لا يقابل «الأخذ من الغرب» غير دعوة الأصالة والاستشراق المعكوس (التي تعتبر الوافد غزواً ثقافياً)، هو ما يكمن وراء طرح المسالة في صورة قائمةٍ من المأخوذات من الغرب لا يُستغنى عنها. النظرية الغائبة وراء هذا الطرح تتتعلق بواقع التشابك العالمي كواقع «تآخذ»، أو أخذ وعطاء (حتى لو اقتصر ما نعطيه على البترول واللاجئين والتطرف الديني، وهذا غير صحيح بحال)، وليس فعلاً من اتجاه واحد، الغرب، وتلقياً سلبياً من طرفنا، فإذا كان الحال سيئاً هنا، فسوؤه ليس معزولاً عن العالم واحد التشابك. وهو ما يحيل من الوجهة العملية إلى وجوب نقد عالم اليوم الفكري والسياسي، بما في ذلك عقائده الأساسية، والاعتراض عليه من مواقع تحررية، لا يرضيها حال العالم اليوم وحالنا في العالم اليوم.

بعبارة أخرى، إذا كان هناك انتقاد لمقولات التقدم والحداثة من موقع محافظ، باسم الهوية والتراث والأصالة، فليس هذا سبباً معقولاً لأن نمتنع عن نقدها من موقع تحرري وعالمي، وبقدر أكبر من الاتساق والإنتاجية، فنعمل على إظهار تاريخيتها وكشف تناقضاتها، وبخاصة التوتر بين كونيتها المفترضة وبين واقع العالم المعاصر، وما فيه من تمييز وعدوان.

هذا الموقع يتيح لنا الانخراط في تغيير عالمنا الفكري، بينما يؤهلنا للعمل مع شركاء في الغرب وغير الغرب من أجل تغيير العالم. نحن في العالم ومن العالم والعالم منّا وفينا، ومنهج صادق وعموم مثقفي جيله ممن يعتنقون نسقاً تاريخياً من المعقولات، مرتبطاً بأفكار التقدم الخاصة بزمنه، يبقينا، إن ثابرنا عليه، في موقع خاص، منفصل عن العالم المتحرك المتغير، بدل أن يُدرجنا فيه ويزجنا في صراعاته. ترى، لماذا التمسك بصورة محددة للتقدم، كانت تبدو مناسبة لنحو جيل أو أكثر بعد استقلال بلداننا، إن كانت هذه الصورة مجادلاً فيها اليوم من حيث الأسس النظرية، وإن كانت أوضاعنا الحالية، وهي أحوال لا تسرّ بشهادة صادق قبل غيره، متشكلة في العالم، ليس من وراء ظهره أو دون علمه، وإن كان العالم ككل في حال تقتضي اليوم التغيير لا التثبيت؟

هذا المنهج يبدو مناسباً من أجل التعبئة، والتعبئة تفترض مثالاً ناجزاً منتهياً، نهاية للتاريخ أو محطة توقف، نغذُّ السير نحوها، بينما هي في مكانها لا تتزحزح. هذه المحطة غير موجودة، إنها وهمٌ أثمره تثبيت تعبوي رغبوي مصطنع لأوضاع تاريخية متغيرة. والمنهج الذي يثبّت المتغير الحي يحرمنا من الانخراط والاشتباك مع العالم المتداخل ومن التاريخ المتحرك. في الغرب الذي ننزع إلى اختزال العالم إليه لم يتوقف التاريخ عند أفكار التنوير وحداثة القرنين التاسع عشر والعشرين، ولا أحد ينتظرنا هناك لنلتحق به. التاريخ الذي جمدناه، لم يتجمد في واقع الأمر، وهو يستأنف حركته اللجوجة المضطربة غير مبالٍ بنا. ولا يعني ذلك بالضرورة أنه جرى التحرك إلى الأمام في الغرب، أو أن أحواله اليوم هي ما يجب أن نتمثل. لكنه يعني أننا لا نكون إلا ماضويين حين نُحكِّم صورة متجاوزة للتقدم كميثاق للتفكير والفعل في مجتمعاتنا. هناك اليوم نقد للنمو، وللفردانية والمفهوم الليبرالي للحقوق، وللإنسانية المعادية للطبيعة، وللتقدم والحداثة، وهناك النقد الماركسي نفسه للرأسمالية والليبرالية، إلخ. وبينما لا وجه معقولاً لأن نعتنق هذا النقد أو ذاك كأنه الكلمة النهائية، فلا وجه معقولاً أيضاً لأن نتمسك بصور أقدم بعد ككلمة نهائية. لا ننتفع من ذلك شيئاً، ولا ينتفع منه أحد، ولا الغرب. ما هو معقول هو أن نشارك في المراجعة والنقد مع غيرنا، أن نكون جزءً من حركة المراجعة والنقد والتغيير في العالم، وأن نعطي في تفكيرنا في شأننا وشأن العالم حيزاً أكبر لتجاربنا الرهيبة الراهنة. هذه التجارب، مرة أخرى، ليست وليدة انفصالنا عن العالم الحديث، ولا هي وقعت من وراء ظهره، بل هي بالضبط منه وفيه، ويغلب أن تكون مشاركته فيها فاعلة وحاسمة، وتدفع إلى إعادة نظر جذرية في نظامه ومعناه وعدالته. في «المعقول الحديث».

والتحدي اليوم ليس أن نرد أوروبا إلى مَحلَّة من العالم، على ما يفيد عنوان كتاب ديبش شاكرابارتي: Provencializing Europe، بل أن نظهر العالمي في كل محلّة، وإن أخذَ هذا العالمي أوجهاً متعارضة. إذ لا تُفهم أيٌ من أوجهه، بما في ذلك داعش، في معزل عن الكل المتفاعل المتشابك.

ليس حلاً التراجع خطوة إلى الوراء، نحو ما يفترض أنها أسس الفكر والمجتمع والدولة الحديثة، الليبرالية والديموقراطية والفردانية والعقلانية. فكما أن الانهيار العملي للشيوعية يحكم على من يثابرون على مقولاتها النظرية بأن يكرروا التجربة نفسها، أي يلغوا تاريخهم وتاريخ بلدانهم، فإن الأمر ذاته صحيح بخصوص المثابرة على ما اعتبرها صادق مقولات الفكر والتنظيم الاجتماعي الحديث. بدل التراجع، وإن يكن تكتيكياً، يلزم التقدم نحو تفكير جديد يدمج خبرة الانهيار السياسي للاشتراكية التي اعتنق صادق أسسها النظرية، وأكثر منها الانفتاح على نقد ومقاومة أشكال السيطرة والاستغلال والتضليل الجديدة. لا يلزم انهيار دراماتيكي للديموقراطيات الليبرالية اليوم، مثلما حصل للشيوعية قبل جيل، حتى نحاول مساءلة عالمها الفكري والتشكك في طبيعيته. اليوم لا شيء يبدو أكثر إلحاحاً على المستوى الفكري والسياسي من نقد الديموقراطية الليبرالية على أسس تستوعب إخفاق شيوعية القرن العشرين، وتكافح من أجل مساواة أكبر وحرية أكبر. وليس من غير هذا الموقع في تصوري يمكن تطوير نقد أكثر جذرية ومقاومة للإسلامية المعاصرة، إن في صيغها الاجتماعية المحافظة أو السياسة التسلطية أو العسكرية الفاشية. لقد تركت سياسة المثقف للإسلاميين قضايا القيم والصراع السياسي والاجتماعي، وشغلت نفسها بالدفاع عن عقائد جامدة بكل معنى الكلمة، قلما انخرط معتنقوها فوق ذلك في نضالات تتصل بالديموقراطية والدفاع عن كرامة مواطنيهم المحتقرين. فوق التجمد على قديم يمعن في التقادم، هناك تنصل من التزامات جوهرية مرتبطة بهذا القديم: الدفاع عن المساواة الحقوقية والحريات العامة على الأقل.

صادق ليس من هذا الصنف، لكنه شارك في تصنيم صورة محددة للكوني، وغاب من عمله التفكير الجذري في أسس عالم اليوم الفكرية. بعض جذور غياب هذا الأفق النقدي جيلية. صادق ينتمي إلى جيل ما يمكن تسميته مثقفي القراءة. مثقفون يقرؤون كتباً بلغات غربية أو مترجمة إلى العربية ويتكونون بقراءاتهم هذه، ولدى صادق وكثيرين منهم تأهيلٌ أكاديميٌ مرموقٌ. لكن حياتهم خلت بقدر كبير من المعاناة الاجتماعية والسياسية، خلافاً لمعظم مواطنيهم. من السمات الملازمة لمثقفي القراءة أن معرفتهم بشؤون المجتمع والدولة، وما يعتمل فيهما من قوى وحركات، ظلت محدودة بقدر كبير، أو هم لم يستطيعوا إدماج ما يحتمل أنهم خبروه في تفكيرهم ونتاجاتهم الفكرية. إشكالياتهم الفكرية لا تتمفصل إلا بحدود ضيقة مع معاش عموم السكان في بلدانهم. هذا يعني بكل بساطة أنهم ينتمون إلى النخبة السائدة، وإن ربما كانوا قطاعاً مسوداً ضمن هذه النخبة، وفقا لتحليل بيير بورديو عن الأكاديميا الفرنسية. في جانب آخر، هناك الإكراهات السياسية المعلومة، وافتقار المثقفين إلى الحصانة. قد لا يصيب مثقفاً ناقداً جهاراً للنظام أسوأ ما يصيب عموم مواطنيه، لكنه يتعرض إلى تضييقات حقيقية متنوعة تُنكِّد عيشه. تؤول هذه الإكراهات السياسية بالمثقفين إلى تفادي العياني وإنتاج المعارف من التجارب الحية، وتسمية الأشياء بأسمائها. وأخيراً، هناك السياسة التي تنبع من تعريف المثقف ووعيه لذاته ودوره، سياسة المثقف. وهذه سياسة تعبوية، تقتضي أن أدوات تعقل الواقع التي يتيحها المعقول الحديث لا جدال فيها. ما تقدمت الإشارة إليه من تجميد لتاريخ المتقدمين عند طور بعينه يصدر عن دوافع تعبوية، لكن التعبئة تعاملٌ وظيفيٌ تطبيقيٌ مع الفكر، وهي تالياً النقيض الجذري لـ… الفلسفة. وما كانت الصفة السجالية الطاغية في عمل صادق أن تطغى بهذا القدر لولا مصادرته التعبوية على كونية مفاهيم التقدم، وصلاحية لا سجال فيها (تُساجِل، لكنها ليست موضع مساجلة) لأسسه الفكرية.

تؤول هذه المصادرة إلى ممانعة التغير والتاريخ، على نحو يجده المرء عند مجايلين لصادق، جمعوا بين اعتناق «المعقول الحديث» والنخبوية السياسي المتشائمة. عند أمثال المرحوم جورج طرابيشي وعزيز العظمة، فضلاً عن أدونيس، لدينا ماضوية عنيدة، تتوسل حرباً لا تنتهي مع ماضوية الإسلاميين، لتعفي نفسها من مساءلة نفسها. هذا مسلك سلفي، لا يغير من ذلك أنه يعي ذاته ضد سلفية الإسلاميين. يلقي هذا المسلك بعض ضوء على الواقعة التالية: فضلاً عن موقف سياسي مجادل فيه (كي نستخدم تعبيراً ملطفاً)، لم يقل أساتذتنا هؤلاء شيئاً يغذي التفكير في سنوات الثورة السورية الطويلة. كان هناك مساندون للنازية، لكنهم استطاعوا قول أشياء ملهمة، تحفز الأذهان. فلماذا أخفق أساتذتنا في قول شيء يُعلِّم ويثقف؟ فوق مشكلة الموقف السياسي والأخلاقي، هناك مشكلة في تصوري في نمط إنتاج المعرفة، في العلاقة بين الخبرات والمفاهيم، في مكانة العياني والمعاش في التفكير والعقائد، ثم في تعريف الذات وتصور عمل المثقف. ليس الواقع وحده اليوم في مكان آخر لا تصل أخباره إلى الأساتذة، بل إن ما تلقّنوه من أفكار «حديثة» يُمعن في التقادم.

ما أفسح مجالاً للتغير والتاريخية عند صادق ليس «المعقول الحديث»، بل الحس السياسي الصائب.

تتواتر في وصف عمل المفكر الدمشقي صفة الوضوح. هذا حقيقي على مستوى الأسلوب والمقصد. لكن لعله تحقق على حساب التركيب والذهاب أبعد في تحليل المجتمع والسياسة والثقافة، ومراجعة العدة الفكرية الموروثة، وتطوير مفاهيم ونظريات جديدة. نشعر بذلك ونحن اليوم، وصادق كان معنا في ذلك قبل رحيله، في معمعان صراعات وتحولات هائلة، وظهور كائنات عجيبة وممارسات مستحيلة، تتحدى مناهجنا الموروثة في التفكير والعمل. لا يبدو أن هناك الكثير مما ننتفع به من نقاشات الاستشراق والاستشراق المعكوس، ومجمل الأدوات التي تحصلت لنا عن طريق الاعتناق أو التبني. نقد الاستشراقيْن لا يسعف في معالجة تحديات اليوم المعرفية والسياسية، ولا كذلك نقد معادليهما العمليين: سياسة المثقف الحديث وسياسة المثقف الأهلي إن جاز التعبير. سياسة المثقف الحديث التقليدية، إن لم تقد إلى الاصطفاف إلى جانب الحكم السلطاني المُحدث في سورية، فإنها تفضي إلى مواقع نخبوية، منعزلة عن الصراع الاجتماعي والسياسي الجاري. وسياسة الاستشراق المعكوس تقود إلى تسويغ مناهج الإسلامين وسياساتهم، وهي عدمية كثيراً أو أكثر.

هناك مخرج: نقد «الاستشراق» و«الشرق» معاً. نقد التمثيلات المتاحة لمجتمعاتنا ونقد مجتمعاتنا وثقافتها/ ثقافاتها أيضاً. أو لنقل نقد العالم وتمثيلات العالم ونقد ذاتنا في العالم وتمثيلاتنا لذاتنا في العالم. وليس هناك حواجز بين النقدين، مثلما ليس هناك حواجز بيننا وبين العالم. نحن في العالم وهو فينا، نحن منه وهو منا.

وفي الأساس بناء تفكيرنا وثقافتنا حول عالم الممارسات والعلاقات والأوضاع الذي نعيش فيه. تُرى، ماذا تقول تجارب السوريين في جيلهم الحالي من اعتقال وتعذيب وقتل وحصار وتجويع ومجازر وتهجير وتغييب وإذلال ولجوء وموت عنيف، وانتشار السوريين في العالم مع انتشار العالم في سورية، ماذا تقول هذه التجارب للفكر؟ وإن لم يتشكل تفكيرنا وتصورنا للعالم بهذا التجارب، ألا يقتضي الأمر إعداة نظر جذرية في ما نعتبره فكراً وتفكيراً؟ في معنى المفكر والمثقف؟ والثقافة؟

في الثورة السورية أخذ صادق موقفاً شجاعاً. انحاز إلى كفاح مواطنيه ووقف بقوة ضد نظام التمييز والطغيان المحلي. رفض حصر الانشغال بالإسلاميين الذين برزوا على واجهة الصراع السوري بقوة، رغم أن مقدمات تفكيره كان يمكن أن تقود إلى هذا الموقع. لم يُتَح له أثناء الثورة، أو ربما لم يشأ، أن يعمل على تطوير مقاربة أكثر تركيباً. كان الرجل في نحو السابعة والسبعين وقت تفجرت الثورة.

انحاز صادق جلال العظم إلى الثورة دون نظرية. هذا وضع مفتوح على اتجاهين. فإما التخلي عن الانحياز إلى الثورة لصون المعقولات النظرية القديمة، أو رفد الانحياز إلى الثورة بثورة في النظرية وأدوات التفكير.

هذه الورقة تستند في نقدها إلى الثورة السورية، كرصيد من الخبرات والأسئلة لحال عالم اليوم، بتفكيره وسياساته ونظامه. نفترض أن لا شيء في عالمنا الفكري سيبقى على حال بينما انقلب عالمنا الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، ليس في سورية وحدها، بل في نطاق أوسع، وبصورة ما في العالم ككل.

لا التوقف في موقع بعينه ينفع، ولا التراجع المؤقت. السير إلى الإمام وحده ما يمكن أن يكون سياسة جديدة لمثقف جديد.

*****

قُدِّمت صيغة أولى من هذه المقالة كمداخلة عبر سكايب، في ندوة تكريمية لصادق جلال العظم، انعقدت في الجامعة الأميركية في بيروت، يوم 21 نيسان 2017.

موقع الجمهورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى