صفحات الرأي

صادق جلال العظم: بورتريه المثقف/ ديمة الشكر

 

 

لعلّ كتاب “في الحب والحي العذري” للمفكر السوري، صادق جلال العظم، يشبه إلى حد كبير كتاب عميد الأدب طه حسين “في الشعر الجاهلي”؛ الكتابان صغيرا الحجم، لكن ممتدا الأثر. إذ خلخلا أفكارًا مسبقة و”مسلمات” موروثة، واستثارا نقاشًا وجدلًا، بل إن كتبًا ومؤلفات كثيرة، شكّل أحد هذين الكتابين مصدر إلهام لها إمًا علانية كما هو حال طائفة الكتب التي ردّت على “في الشعر الجاهلي”، ومن أحسنها كتاب “مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية” لناصر الدين الأسد، وإما “خفية”، كما حال كتب وأبحاث كثيرة نظرت في “الحب العذري” باعتباره ظاهرة لا مدونة شعرية. فقبل كتاب صادق جلال العظم، كان “بنو عذرة” يقيمون بسرور في عالم الشعر والخيال، لا يدانيهم تأليفٌ يعكّر صفوتهم واطمئنانهم لصورتهم العذبة حقًا.

إلا أن الجامع الأقوى بين كتابي صادق جلال العظم وطه حسين: حسن نصب الشباك. فالكتابان يوحيان بالبدء من موضوع “أليف” معين أو مسألة “لطيفة” بعينها؛ الحب العذري/ الشعر الجاهلي، بيد أنهما يضمران أمرًا أعمق وأشد تأثيرًا، يقول بإعمال التفكير النقدي تجاه أمور “حساسة” متجذرة في العقلية التقليدية الراكدة، التي تتخذ من الدين أو الأعراف الاجتماعية، سلطة مطلقة تكاد تتطابق إلى حد كبير مع سلطة المستبد. ومن بعد هذا الإضمار، يتضح هدف التأليف لهذين الكتابين الجميلين الماكرين: التمدن والحداثة، تحفيز العقل على النقد العلمي، القائم على البحث والقراءة وإقامة البراهين، أي كل ما من شأنه نبذ التفكير الغيبي البليد، القائم على تكرار مقولات “سلطوية” في نهاية المطاف.

لتكون النتيجة زعزعة النسق القائم حول الموضوع الأليف أو المسألة اللطيفة، وبصورة أدق المحيط أو البيئة التي أدّت إلى ولادة موضوع أو مسألة مماثلين. هذه النقطة الأخيرة ربما، هي التي حفظت للكتابين الصغيرين مكانتهما في الثقافة العربية، من حيث إنها تفتح في كل حين باب النقاش حول مضمونيهما، لتتسع دائرة قرّاء الكتابين مرة بعد مرة.

ثمة سحرٌ خفي في الكتابين “الذكيين”، يجعل عملية إعادة قراءتيهما لمرات ومرات، أمرًا “طبيعيًا” وشبه محسوم؛ فالأسلوب السلس، و”توريط” القارئ عبر مخاطبته مباشرة، وتلك الموهبة في ترتيب خطة الكتاب وتقسيمه إلى بضعة فصول، فضلًا عن إشعاع الذكاء منهما، كلّها كلّها سمات تتوفر عادة في الدواوين الشعرية. إذ يسهل في كل حين إعادة قراءة أي ديوانٍ جميل لمرات ومرات. كما أن عمر قراءة القصائد الجميلة لامتناهٍ، لكأنه حيلة تغازل فكرة الخلود، ومن هنا التعبير : قصائد خالدة.

كذا الأمر مع هذين الكتابين الصغيرين، اللذين يشكلان علامة فارقة في الثقافة العربية، شيء مؤسس يقول بالتأريخ بما قبلهما وما بعدهما، ويقول أيضًا بقياس الأثر الكبير الذي أحدثه كلاهما.

بطريقة ما يضيء الكتابان الصغيران حياة صاحبيهما، فتحت طبقة الأسلوب السلس الأدنى إلى السهل الممتنع – فالموضوع مقيم في التراث القديم، والهدف يريد بلوغ المعاصرة والحداثة – تشف شخصية الكاتب بجانبها “التدريسي”، فطه حسين كان كما هو معروف أستاذا جامعيًا، وكذا صادق جلال العظم، فقد أمضى جلّ عمره أستاذًا جامعيًا، مدرسًا للفلسفة في جامعات عربية وعالمية كثيرة.

ويمكن للمرء، أن يسترسل في المقارنة والمقابلة بين الكتابين والرجلين، فهو أمرٌ مغرٍ، ويجلب التفاؤل، خاصة في أيامنا هذه حيث صار الجهل والتجهيل وغسيل الدماغ والكذب أمور عابرة للزمان والمكان، وكلية الوجود والسلطة.

لكن، يخطر في البال تلك الفضيلة النادرة التي يتحلى بها صادق جلال العظم، إذ لم يستعمل على الإطلاق “السلطة الرمزية” التي عادة ما تكون للمثقف الأصيل (فغير الأصيل يحتاج سلطة سياسية)، لأي مكسب ومن أي نوع. فصل بين عمله كأستاذ جامعي، وإنجازاته كمثقف كبير. وقدم مثالًا نادرًا عن النزاهة في الثقافة العربية. شيء لم يعد مألوفًا في أيامنا، شيء كـ “لفظ وحشي غريب” في قصيدة ولا أجمل. شيء “دقت معانيه لجلالتها” (بالإذن من ابن حزم في طوق الحمامة) عن الوصف. شيء تناهبه المفكرون، وهم يبحثون في ماهيته، من غرامشي إلى إدوارد سعيد. سؤال أبدي يقول: من المثقف؟ وجوابه عفوي: صادق جلال العظم.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى