صفحات الرأي

صبا محمود: لغة الأكاديميا الداخلية/ حسام عيتاني

 

 

رحلت الباحثة الأميركية الباكستانية صبا محمود الأحد بعد صراع مع المرض العضال. وكانت قد أثارت جدالات واسعة بعد صدور كتابها «سياسات التقوى» في 2005 ما وضعها في مركز اهتمام المؤسسات الأكاديمية في الولايات المتحدة وأوروبا وأهّلها لنيل جوائز عدة من جهات مرموقة.

مقاربة عمل محمود من زاوية البحث الأكاديمي ونقد ما ذهبت إليه من آراء تصب عملياً في مصلحة التيارات الأكثر محافظة اجتماعياً وسياسياً، ليست مما نهتم به هنا. بل ما يعنينا هو مدى تأثير التيار الذي انتمت صبا محمود إليه والذي صار جزءاً رئيساً من الإنتاج الأكاديمي الأميركي، تأثيره في تشكيل وعي ما، بين الأكاديميين الغربيين أو بين الجمهور العربي والمسلم الذي كانت تدرسه.

والحال أن لائحة طويلة من الباحثين «المابعديين» (ما بعد الكولونياليين، ما بعد الحداثيين، ما بعد الأيديولوجيين، الخ…) الذين سطع نجمهم منذ ثمانينات القرن الماضي قد أفلحت في بالاعتماد على أعمال ميشال فوكو خصوصاً، في صوغ مذاهب في النظر إلى العالم، تعلي من شأن الخطاب على حساب المنتج الأول لهذا الخطاب: المجتمع. لم يكن فوكو غافلاً عن علاقة التأثير المتبادل بين البنية التحتية (الاجتماعية– الاقتصادية) وبين تلك الفوقية (الأيديولوجيا والخطاب والفكر عموماً) وكان شديد الدقة في التعامل مع هذه المسألة. تابعوه لم يكونوا على هذا المستوى.

منذ ذلك الحين صدرت كمية كبيرة من الأعمال التي تُحل الخطاب مكان المجتمع وتجعله الفاعل الوحيد في التاريخ، ما يشكل إفراطاً في تحميل الثقافة والهوية ما لا قِبَل لهما بحمله. فصرنا نقرأ لمن وضع الخطاب مكان الطبقة (بداية مع لوي التوسير ثم وصل ذلك إلى تمامه مع أرنستو لاكلاو) ودرج في هذا المندرج كتاب وباحثون وفي مجالات مختلفة ولعل من أشهرهم طلال أسد (أستاذ صبا محمود)، الذي درس الإسلام من الزاوية الانتروبولوجية.

المسألة مع هذا النوع من الكتابات هو درجة الانهماك بالذات إلى حد الانغلاق عن العالم الواقعي والسعي إلى الوصول إلى استنتاجات عامة من أمثلة ضيقة (موقف صبا محمود من الإسلاميين المصريين، على سبيل المثال). يضاف إلى ذلك، احتفاء التيار الأكاديمي الرئيسي في الولايات المتحدة الذي يسيطر عليه اتباع المناهج «الما بعدية»، بهذه الإنتاجات والترويج لها وفرضها في لوائح القراءات الإلزامية للطلاب في عملية إعادة إنتاج لهذا النوع من الفكر الذي لا يفضي إلى مكان، خصوصاً بالنسبة إلى «موضوع الدرس» أي نحن، شعوب العالمين العربي والأسلامي والدول النامية، باستثناء توجيه السخط إلى ليبرالية وإمبريالية متخيلة في أذهان الباحثين أكثر مما تكون قائمة ومؤثرة في هذه المجتمعات الخاضعة مثل غيرها لقوانين اجتماعية عامية مع خصوصيات تتعلق بالثقافة المحلية والهوية والبيئة المحيطة.

كانت الراحلة صبا محمود من النماذج البارزة في هذا التيار الأكاديمي السعيد بذاته والمكتفي بها والقادر على صوغ أمثلته التي تلائم مناهجه مسبقة الصنع، التي تعاد إلى منطقتنا بصفتها حقائق ناجزة تسارع إلى تلقفها قوى لا تساهم إلا في إنتاج العدمية والرجعية.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى