صبحي حديديصفحات الثقافة

صراع الحريات… بعد صدام البربريات/صبحي حديدي

 

 

 

ضمن الأخطار، التشريعية والإدارية، التي تتهدد الحقوق العامة، وتطال حرّية التعبير تحديداً، في أعقاب جريمة باريس الإرهابية ضدّ أسبوعية «شارلي إيبدو»؛ أوّل الغيث قطر: جاك ـ ألان بينيستي، عمدة بلدة فيلييه سور مارن، جنول باريس، أصدر قراراً بمنع عرض «تمبكتو»، فيلم المالي عبد الرحمن سيساكو الذي ينافس الآن على أوسكار أفضل شريط أجنبي، ولقي في مهرجان كان السينمائي الأخير ترحيباً بالغاً من الجمهور والنقاد. ذريعة العمدة، الذي ينتمي إلى حزب المعارضة اليميني الذي يتزعمه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، هي التالية: «أخشى أنّ هذا الفيلم يشكل دفاعاً عن الإرهاب»!.

في العاصمة الفرنسية ذاتها، خلال مؤتمر لعنوان «الصحافة بعد شارلي»، عقدته منظمة اليونسكو، أعرب جون رالستون سول، رئيس اتحاد الكتّاب العالمي المعروفة باسم PEN International، عن خوفه من استسهال استخدام تعبير «نحن في حالة حرب»؛ لأنّ هذا الطراز من «الحروب» تحديداً، ضدّ مختلف الأصوليات، سوف يفشل اليوم كما فشل في الماضي، والاصل في التربية حول حرّية التعبير يجب أن يبدأ في سنّ اليفاعة. صحافي آخر، انسحب مبكراً من المؤتمر، ذكّر الجميع بأنّ الحرّيات تُنتهك كلّ يوم على أصعدة المؤسسات النافذة، حكومية كانت أم خاصة، وأنه لا معنى لحرّية التعبير إذا كان المرء لا يجد لقمة العيش، ووسائل الإعلام الكبرى واقعة تحت سيطرة مجموعات الضغط.

وكما حدث في أعقاب هزّة ايلول/سبتمبر 2001، تبدو الحرّيات والحقوق المدنية هي الضحيّة الأولى جرّاء ذلك المزيج من التعريفات العشوائية للإرهاب، وإلقاء مشكلات البطالة والهجرة وسياسات الاندماج الرديئة على عاتق الجاليات المسلمة وحدها، ودغدغة المنظمات اليمينية المتطرفة والعنصرية، والكيل بأكثر من مكيال حين يتعلق الأمر بنقد الإسلام مقابل نقد الصهيونية مثلاً…. والعالم يتذكر أنه لم تنقضِ أيام معدودات على 11/9، حتى أصدر الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن قانون مكافحة الإرهاب الجديد، أو «القانون الوطني»، الذي مسخ قانون سلفه بيل كلينتون للعام 1996، وجعل منه لعبة أطفال. ولم تكن تلك سوى بداية سوف تدشن سيرورة جهنمية: غوانتانامو، والسجون المتنقلة، وتكليف أنظمة الاستبداد بالتعذيب نيابة عن الأجهزة الأمريكية، أو ممارسته مباشرة ولكن على الطريقة الأمريكية…ومن جانب آخر، كان طبيعياً أن يجفّ المداد عن قرار الرئيس الأسبق جيرالد فورد، الذي يحظر على وكالة المخابرات المركزية ممارسة الإغتيال السياسي. اليوم يُمارس الاغتيال السياسي عن طريق الطائرات بلا طيار، وبترخيص من سيّد البيت الأبيض، وقد عيّن نفسه قاضياً أوحد ينفّذ أحكام الإعدام متى، وأينما، شاء.

الهزّة أصابت أوروبا أيضاً، ومنحت معظم الديمقراطيات الغربية فرصة سانحة ـ وبالطبع: جسارة بالغة غير مسبوقة ـ في سنّ وتطبيق قوانين مماثلة للقانون الأمريكي. وكانت تلك التشريعات تعلن في الشكل محاربة الإرهاب، ولكنها في المضمون الخفيّ أضمرت أنساق عديدة جديدة، وأحيت اخرى قديمة، لمصادرة الحرّيات العامة وقهر الحقّ في التعبير عن الرأي، على نحو تستحي من تطبيق بعضه أعتى أنظمة الاستبداد في بلداننا. وثمة هنا مكارثية جديدة، أو متجددة بالأحرى، بعضها يحرص على إخفاء العورة فـــيرتدي أقنعـــة واهية، وبعضها الآخر لم يعد مكترثاً بأيّ تكاذب حول الحقّ والخير والجمال، أو بأيّة ركيزة أخرى في معمار الفلسفات الغربية الليبرالية حول الحقوق والاجتماع المدني.

البربريات، بين إرهاب الأنظمة وإرهاب المنظمات، تتصادم، ثمّ تتلاقى؛ وأمّا الحريات المدنية والعامة، فإنها لا تصارع أنماط الإرهاب كافة، فحسب؛ بل تصارع من أجل البقاء أيضاً!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى