صفحات الناس

صراع بين الشرّ والشرّ/ دلال البزري

 

في شريط “اليوتيوب”، ترى رجالا ونساء في قفص سيّار بناه “جيش الفتح” في الغوطة، محمولين على عشرات من الشاحنات الصغيرة؛ كل قفص يحتوي على أربعة أو خمسة منهم، وجميعهم رهائن، موزعين حسب الجنس، منعاً للإختلاط… الصوت الذي يتكلم عن هذا “الإنجاز” يقول عنهم انهم علويون، سجناء أو مخطوفون، أرغموا بقوة السلاح على ركوب الشاحنة-السجن، ليكونوا “دروعا بشرية” بوجه براميل بشار الأسد. تتكلم إمرأة من خلف قضبان القفص، مردِّدة ما سبقها إليه رجل، هو رهينة في قفص آخر؛ وكلام الإثنين يكاد يُختصر بشكر حار لجلاديهم، لشدة ما أثنوا على “شجاعة” خطوتهم هذه، وما ناشدوا بشار لوقف براميله، وما أكدوا على “أخوة” تجمعهم مع أولئك الجلادين.

هذا لا يمنع “جيش الفتح” من خوض مواجهات مع فصائل مسلحة تناظره معارضتها لبشار الأسد. ليس مواجهة “داعش” فقط، إنما مجموعات منضوية تحت لواء هذا “الجيش” نفسه. الأمر الذي لا يثنيه عن إرتكاب كل الآثام الممكنة؛ من السرقة ومصادرة المنازل والخطف والقتل العشوائي، والتعذيب… إلى ما هنالك من أصناف الجرائم، التي يرتقي بعضها إلى مستوى جرائم حرب، كأن بشار نموذجها الأعلى.

لكن “جيش الاسلام” ليس وحده: الفصائل “المعتدلة” الأخرى، المتداخلة تارة مع فصائل إسلامية، وتارة أخرى مع فصائل كردية.. روى الهاربون من جحيمها حكايات لا تنتهي عن تجاوزتها وجرائمها وتشبهها بأعتى أجهزة المخابرات والقمع المعتادة في سوريا.

وإذا استثنينا كراهية بشار ورجالاته وجيشه وأجهزة مخابراته، لا نجد حتى الآن فصيلاً سورياً مسلحا يعلن عن رؤيته لسوريا المقبلة. الغالبية العظمى تجود في مجاهرتها بطائفيتها، وبعزمها على تطبيق الشريعة الاسلامية في هذه السوريا القادمة، تعطي مثالا حيا عن معنى هذا التطبيق، فلا تترك “داعش” وحده يحتكر معاني القصاص الجسدي الوحشي. بحيث انك وأنت تحاول تصور مستقبل ممكن ومقبول لسوريا، لن تجد أمامك إلا حكم “الإخوان المسلمين”، الذين يبدون في هذا المشهد، أقل فوضوية في توحشهم من إخوتهم الإسلاميين، سلفيين كانوا أم “جهاديين”.

هذا على المستوى الأدنى، الميداني، المحلي، السوري. أما إذا ارتفعت قليلا، فلا ترى مشهدا مختلفا من حيث الجوهر. الروس الآن يقصفون المسلحين المعارضين، الإيرانيون يشاركونهم براً، بمستشاريهم وميليشياتهم. يشاركهم أيضاً، ينافسهم، أو ينسق معهم الأميركيون، ومن بعدهم حلفاؤهم، وكذلك اسرائيل، المتفقة معهم على تحييد “مداها الحيوي” في هضبة الجولان السورية المحتلة. والجميع في صراع مع بعضه البعض… الجميع يدعم هذا الفصيل السوري او ذاك، من قوات بشار الأسد إلى المجموعات المسلحة المتخاصمة. والجميع أيضاً لا يبحث إلا عن حصته الخاصة في سوريا المقبلة، “مصالحه” يقولون، ولا يحسب للخراب الذي يعمّ سوريا والسوريين، من جراء منافساتهم. فالذين ينشدون ليل نهار كلمات جميلة عن بشار والشعب السوري، لا يقلّون حسابا عن المتمسكين به؛ الإثنان يتباريان في سوريا، وعيونهم شاخصة على شيء آخر، غير “مصلحة السوريين”، و”حريتهم في تقرير مصيرهم”.

الصراع في سوريا من نوع إستثنائي: عادة يكون الصراع بين الخير والشرّ، بين أحرار وسجانين، بين إستعمار وشعوب، بين فقراء وأغنياء الخ. أما هذا الصراع فهو بين الشرّ والشرّ؛ وذلك مهما كانت المراتب والدرجات وزوايا النظر. فيما الخير في مكان آخر، في ديناميكية أخرى، وهو يتجسد بتلك الهجرة السورية الجماهيرية إلى أوروبا، الخارقة القوة، التي تتحدّى كل شيء. تتحدّى الموت هرباً من الشرّ المطلق. ديناميكيتها منفصلة عن صراع الشرّ ضد الشرّ، خارجة عنه وعن كل منطقه، غارقة الآن في البحث عن الخلاص، لا عن حصة، أو غنيمة، لا حتى عن قدر منها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى