صفحات سوريةميشيل كيلو

صراع على بديل!


ميشيل كيلو

لا مبالغة في القول: إن منطقتنا العربية تعيش حالة من إعادة الترتيب، تتصارع وتتنافس فيها حول بديل لأوضاعها الراهنة قوى محلية وإقليمية ودولية متنوعة، هي أولا: أهل المنطقة أنفسهم من عرب وغير عرب، وقوى إقليمية تجسدها قبل كل شيء تركيا وإيران وإسرائيل، وقوى دولية وكتل كبرى متعددة المصالح متضاربة السياسات تمسك أساسا بمجلس الأمن الدولي، هي بصورة خاصة أميركا والاتحاد الأوروبي والصين وروسيا.

تأخذ عملية إعادة الترتيب صورتين متناقضتين، إحداهما خاصة بالمجالين الوطني والقومي، والأخرى بالمجال العربي – الإقليمي:

– أما الأولى فهي ستتظاهر على الأرجح من خلال إعادة صياغة الأوضاع الداخلية لبعض البلدان العربية على أسس جديدة، تستند على الإقرار بحقوق جديدة لمواطنيها ومكوناتها القومية والإثنية المختلفة، مع ما سيحمله ذلك من احتمالات تضمر مخاطر قد تؤدي إلى تفكيكها أو، على العكس من ذلك، إلى بناء وحدتها الداخلية على أسس متينة لم يسبق لها أن قامت على ما يماثلها، إن التزمت أطرافها بالخيار الديمقراطي الوطني الجامع كخيار نهائي وأخير. ومع أن النتائج الملموسة لهذه العملية لن تتضح في أمد قريب، وينتظر ألا تكون واضحة قبل مرور بعض الوقت، فإن بداياتها التي انطلقت من انتفاضات تونس ومصر – وتوشك أن تجتاز في أيامنا المحطتين الليبية واليمنية، وتدخل منذ قرابة نصف عام بزخم إلى المحطة السورية، ووصلت إلى بلدان عربية أخرى بادرت إلى ملاقاتها في منتصف الطريق عبر إصلاحات محدودة تطاول المجال الاجتماعي وبعض جوانب الفسحة السياسية – فإنها ستكون على الأغلب نتائج عامة شاملة، ستتباين من بلد إلى آخر بسبب تباين بعض الظروف المحلية والوطنية، وستستهدف جميعها إعادة نظر أو ترتيب الأوضاع العربية العامة، وخاصة منها أبنية السلطة وأدوار المجتمعات والعلاقات بينهما. وبالنظر إلى أنه يصعب أن يستفيض المرء في تلمس المآل الذي ستنتهي إليه هذه البدايات، لأنه سيكون مرتبطا بتحولات تصعب معرفتها لموازين قوى متحولة تميز عادة حقب التحول التاريخية الكبرى، فإن من شبه المؤكد أن نستعين بمدرستين سياسيتين تتقاربان في المطالب وتختلفان في الخلفيات والمرامي وآليات العمل، هما المدرسة الديمقراطية والمدرسة الإسلامية، اللتان تتداخلان في نقاط كثيرة، وسيتوقف مستقبل العرب على تقاربهما وافتراقهما، لكونهما ستعيدان كلتاهما إنتاج مسائل عامة متنوعة طويت صفحتها خلال قرابة نصف القرن الماضي، ربما كان أهمها المسألة القومية وما يتصل بها من صراع عربي – إسرائيلي.

– بدأت الصورة الثانية تتخلق تحت أنظارنا، حيث يتم تفكيك النظام الإقليمي الثلاثي الأركان: الإسرائيلي – التركي – الإيراني، دون أن يدري أحد ما الذي سيحل محله من علاقات قوى وتوازنات إقليمية بديلة، وما إذا كان الترتيب الجديد سيتم دون قتال مباشر بين هذه القوى، أم أن مراحل منه ستنجز عن طريق صراع غير مباشر أيضا بينها، تنخرط فيه قوى محلية وداخلية تدعمها قوى إقليمية، وخاصة منها تركيا وإيران، اللتين يبدو الصراع على سوريا وكأنه صراع بينهما أيضا، بينما تراقب إسرائيل مجرياته محتفظة لنفسها بحق التدخل فيه ساعة ترى لها مصلحة في ذلك. وللعلم، فإن محطات الصراع الداخلي تدخل أكثر فأكثر في ثنايا العلاقات بين هاتين القوتين، أو أن هذا العلاقات تفرض نفسها عليها، بحيث يبدو وكأن تركيا تقف إلى جانب المحتجين السوريين، بينما تساند إيران النظام، ويقف وراء كل منهما، بالفعل أو بالقوة، عدد من الدول الكبرى المتنافسة أو المتكاملة الجهود، التي يخال من يراقبها أنها لم تتخذ بعد قرارات نهائية بصدد صراع لا يضمن هوية البديل الذي سينبثق منه، لذلك تتركه ينضج ويتبلور رغم ما يسببه من آلام للداخل السوري. في هذه الأثناء، يظهر الطرف الإيراني – السلطوي مصمما على أن يقاوم حتى النهاية محورا تركيا – غربيا هشا، يكتفي حتى الآن بمراقبة حراك مجتمع سوري يفترض أنه متعاطف معه، وقد ينتقل في أي حين إلى موقع حليف داعم له، بعد أن أعلن انفكاكه الصريح عن السلطة، بل وعداءه لها، ولمح مرارا وتكرارا إلى أنه قد ينقلب إلى طرف في صراع مباشر أو غير مباشر ضدها، الأمر الذي سيكون مرجحا في حال أوشك الطرف الخصم على حسم أو كسب الصراع، أو بانت عليه علامات ضعف ووهن تجعل من الضروري تدخل المحور التركي – الغربي لتحقيق مآربه الخاصة: تحويل تركيا العثمانية السنية إلى قوة مهيمنة على المنطقة، صارعت خلال قرنين إيران الفارسية الشيعية على العراق، وها هي تسعى إلى إخراجها من ساحل المتوسط الشرقي، علما بأن صراعهما يدور في ظل صعودهما الصاعق كقوتين قوميتين – إسلاميتين ناهضتين، تقرآن كل شيء بطرق تنافسية ومتباينة، بما في ذلك القرآن الكريم والأوضاع الدولية.

لا يدور هذا الصراع المركب في فراغ، بل هو يندرج في سياقات دولية يزيده طابعها التنافسي تعقيدا، ويضيف إليه عناصر خارجة عن السيطرة، تجعل إدارته بالغة الصعوبة ومكلفة جدا بالنسبة إلى أطرافه الداخلية، التي تدفع منذ قرابة نصف عام أثمانا باهظة، لأن السلطة أدارت الصراع بطريقة وضعته منذ البداية في سياقات مغايرة لطبيعته كصراع من أجل حقوق سياسية – اجتماعية، يأخذ بعين الاعتبار متغيرات الداخل ونموه المجتمعي والتعليمي والثقافي ويبدل أو يعدل أو يضع حدا لنظام الحزب الواحد وما ترتب عليه من أشكال حكم تقادمت وصارت عبئا ثقيلا على تطور البلاد والعباد.

والغريب أن السلطة نفسها لم تنكر الحاجة إلى بديل للأمر القائم، وإن أرادته قريبا قدر الإمكان من صورته الراهنة، بينما يريد المحتجون نظاما مختلفا، جديدا ومختلفا، يماشي العصر ويشبهه ويستطيع العيش فيه، ويلبي حاجتهم إلى المشاركة (الحرية) والثروة (العدالة). والأغرب أن السلطة اختارت طريقا كان من الجلي أنه سيقود إلى التعقيدات التي تعيشها سوريا الآن، وحاولت في هذه العجالة شرح بعض جوانبها البرانية ومقتضياتها العملية، وما قد تنتهي إليه من لهيب لا قدرة لها على إخماده، أخذ يحرق مجتمعها ودولتها حتى صار المرء يخاف ألا يبقي منهما شيء، إلا إذا تم وقفه بمعجزة في زمن لا تسيره معجزات.

أخيرا، هذا الأسلوب في المعالجة يبقي أبواب الاحتمالات الإقليمية والدولية مفتوحة، خاصة إن تغيرت توازنات الداخل بين السلطة والمحتجين. وإذا كان ما حدث في ليبيا قد لا يتكرر في الحالة السورية، كما يعتقد كثيرون، فإن هذا لا يعني بتاتا عدم وجود نماذج أخرى قابلة للابتكار أو للتجريب، كفيلة باستنزاف قدرات وطاقات السوريين فضلا عن قدرات وطاقات حلفائهم. ومن يعتقد أن هذا مستحيل، عليه أن يتذكر كم استنزفت الحرب الأهلية في لبنان الصغير بقدراته المحدودة دول المنطقة وقوضت إمكاناتها وغلت أيديها ودفعتها إلى حالات من العداء لم تتم تسويتها إلى اليوم، كان بين أخطر نتائجها سقوط العراق وخروج العرب من الصراع مع إسرائيل.

هل نستطيع فصل الصراع الداخلي عن إلزامات هذه البيئة الإقليمية والدولية، كي نحصل على سوريا التي نريدها، أم أننا تجاوزنا هذه المرحلة إلى البديل الذي يراد لنا؟. ذلك هو سؤال اليوم والغد، الذي لا بد أن يكون لنا، نحن المواطنين العرب، دور في تحديد هوية الرد عليه!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى