بكر صدقيصفحات سورية

صعود «العلمانية» القومية الكردية مقابل الفورة الإسلامية في محيطها/ بكر صدقي

 

ثمة فكرة رائجة، بقدر ما هي مبتذلة، لدى النخبة الثقافية الكردية، مفادها أن «الإسلام سبب تخلفنا واستتباعنا للأمم الأخرى». والأكثر ابتذالاً تقديم هذه النزعة المناهضة للدين بوصفها «علمانية»، على ما تروّج تيارات وأحزاب ومثقفون أفراد. وينسب إلى عبدالله أوجلان حديث عن انبهاره بتمثال أتاتورك القائم في ساحة «أولوس» في زيارته الأولى إلى العاصمة أنقرة.

واقع الحال أن النزعة القومية، العلمانية تعريفاً، تخوض صراعها اليوم، لا ضد قريناتها التركية والعربية والفارسية، بل ضد تيار ديني ناهض على أنقاض النزعات القومية في تركيا وإيران والدول العربية.

لكن الحساسية الكردية ضد الإسلام تعود إلى لحظة تفكك الامبراطورية العثمانية، حين انفصلت الأمم الحديثة النشأة عن الامبراطورية، بما في ذلك الأمة التركية التي عمل مصطفى كمال على اصطناعها من العجينة الاجتماعية للإسلام مع نزع الدين عنها. ذلك أنه استكمل ما بدأته حكومة الاتحاد والترقي من تطهير أراضي الجمهورية التركية الوليدة من العناصر غير المسلمة، الروم والسريان والأرمن واليهود، وأبقى على الاثنيات المسلمة غير التركية، الكرد والشركس واللاز والتركمان والعرب والأرناؤوط، على أمل تتريكها. واضطر، بسبب صراعه على السلطة مع السلطان وتحت ضغط الحلفاء في مفاوضات لوزان، إلى تبني علمانية متشددة، فأصبح مشروعه نوعاً متطرفاً من الهندسة الاجتماعية تسعى لجمع المسلمين في أمة تركية منزوعة الدين.

فشل مشروع أتاتورك، في التاريخ الواقعي، ببعديه العلماني والقومي، فاستعاد الأتراك تدينهم وحافظ الكرد على ثقافتهم القومية ونزوعهم الاستقلالي. لكن في ظل ضعف التشكل القومي للكرد، كانت الرابطة الإسلامية هي التي دفعتهم للبقاء داخل حدود الجمهورية التركية، أضف إلى ذلك مغازلة مصطفى كمال لهم، في خطاب له في مجلس الأمة، بحديثه عن كردستان وعن نيته منحهم حكماً ذاتياً في مناطقهم. لكن قراره اللاحق بإلغاء مؤسسة الخلافة، تحت ضغط البريطانيين والفرنسيين في لوزان، في 1924، سيقطع شعرة معاوية مع الكرد، فيندلع تمرد الشيخ سعيد بيران في 1925 ليكون أول ثورة كردية ذات نزوع استقلالي في العصر الحديث. وبقمع أتاتورك الدموي لها ستتأسس ملامح العلاقة الكردية – التركية في الحقبة الجمهورية، كعلاقة صراعية قائمة على الإنكار والقمع الوحشي من جهة، والتمرد والنزوع الانفصالي من جهة ثانية.

«خدعنا الأتراك بالإسلام»، هذا هو التعبير الأكثر شفافية عن سيكولوجيا الكرد تجاه الإسلام. أما بعد ارتسام حدود سايكس – بيكو، فنما الوعي القومي لديهم بصورة متوازية مع صعود الحركة القومية العربية ليبلغ ذروته الحادة مع وصول البعث إلى السلطة في العراق وسورية.

يمكننا الحديث إذن عن تاريخ طويل انقضى على تلك «الخطيئة الأصلية» التي حرمت الكرد من وطن قومي لهم أسوةً بالقوميات الأخرى التي انفصلت عن السلطنة، ونعني بها البقاء داخل حدود تركيا الحديثة والجمهورية بسبب الرابطة الإسلامية التي كان مؤسس الدولة الجديدة أول من تخلى عنها، فأطاح مؤسسة الخلافة، وحارب التيارات الإسلامية الشعبية وأدار ظهره لمحيطه العربي المجاور.

اليوم بعد تسعين عاماً على إلغاء الخلافة، عادت هذه بصورة كاريكاتورية ودموية في الموصل على يد الخليفة الملقب بأبي بكر البغدادي. وفي اليوم نفسه الذي اجتاح مجاهدوه الموصل واستولوا عليها، دخلت قوات البيشمركة كركوك المتنازع عليها ليحل بارزاني هذا «التنازع» عملياً، بعدما هرب جيش المالكي وانهار أمام زحف القوات السنّية. وها هو رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني يعلن بدء التحضيرات لإجراء الاستفتاء على استقلال دولة كردستان عن العراق، بعدما بلغت خيبة الأمل الكردية مداها مع حكومة المالكي، وغداة إعلان البغدادي عن «دولته الإسلامية».

إلغاء الخلافة وإعادة إحيائها أديا، بصورة متناقضة، إلى نتيجة واحدة بالنسبة للنزوع الاستقلالي الكردي. بين الحدثين قرابة القرن، انتهت فيه الكمالية في تركيا والبعثية في سورية والعراق، مقابل صعود إسلامي في الدول الثلاث إضافة إلى إيران.

إن قيام الدولة الكردية في شمال العراق سيخلق ديناميات جديدة في الاقليم تم التأسيس لها في بقية دول الشتات الكردي. ففي سورية أقام الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، على الأرض التي انسحب منها نظام الأسد طوعاً، بُنى دولته، على رغم أنه يرفض فكرة الانفصال عن سورية في خطابه المعلن، مقابل التيار البارزاني في سورية الذي يتحدث عن الفيدرالية من غير أن يملك القوة على الأرض لتحقيقها، بل إنه يعاني منذ الآن من الاضطهاد السياسي لحزب الاتحاد الديموقراطي الذي أقام كانتوناته في الجزيرة وكوباني وعفرين.

أما في تركيا التي تتمتع باستقرار نسبي ونظام ديموقراطي لتداول السلطة، بصرف النظر عن نواقصه الكثيرة، فقد رشح رئيس حزب السلام والديموقراطية صلاح الدين دمرتاش نفسه لمنصب رئاسة الجمهورية التركية في خطوة ذات دلالات رمزية كبيرة بالقياس إلى الحساسية الشوفينية التركية تجاه الكرد وممثلهم حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً لدى الدولة التركية.

وإذا كان الجزء الإيراني من كردستان يبدو هادئاً أو بعيداً عن الأضواء إلى اليوم، فمن المحتمل أن تؤدي الورطة الإيرانية في سورية والعراق (إضافة إلى اليمن ولبنان وفلسطين) ونزيفها المستمر في تلك المناطق، إلى ولادة فرصة جديدة ليقظة المكونات داخل الامبراطورية، تضاف إلى المعارضة السياسية من داخل النظام التي تم قمعها بوحشية في 2009.

سيتخذ الاستقلال الكردستاني مسارات متنوعة تبعاً للأوضاع السياسية المختلفة في العراق وسورية وتركيا وإيران، ولكن يبدو أن الشيء المؤكد الوحيد هو أن الكرد ماضون نحو فقء تلك الدمّلة التي عمرها تسعون عاماً والحصول على دولتهم المستقلة. هذا المسار لن يمر بسلاسة، بل عبر حروب ضارية ودماء غزيرة.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى